كتب لصحيفة الوسط
الحمد لله
إن تحدي الحرية سيستدعي خريطة جديدة للعلاقة مع عموم الناس والنخب، الموافق منهم والمخالف. في السابق كانت العلاقات بين القوى الفاعلة في المجتمع تمر عبر قنوات النظام، فهو ضابط الإيقاع والقاسم المشترك في كل فعل أو رد فعل؛ يفرق ليسود، ويغري بعض القوى ببعض ليبقى متسلطًا على الجميع؛ ويقرر المسموح به من الأقوال والأفعال ويعاقب على تجاوز ما حدده من أسقف. الآن وبعد سقوط هذا الطغيان، فيرجى أن تكون هناك قنوات مفتوحة بين قوى المجتمع وتياراته المختلفة. ويرجى أن يأتي هذا التطور بخير عميم إذ يفتح الأبواب أمام حوار جاد من أجل مصلحة البلاد. وإن هذا يستدعي من الدعاة حسن التكييف الفقهي والسياسي لهذه القوى، ووضع أسس للتعامل معها.
النخب
بداية، التعبير بالنخب هنا ليس تعبيرًا شرعيًا، بل المقصود بهم النخب الفكرية والاجتماعية والسياسية، والمبرزون في شتى المجالات المعرفية. أما النخبة بحق في عين الله فلا يعدون المذكورين في قوله تعالى: “إنَّ أكْرَمَكُم عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُم.”
إنه بسقوط الطغيان وفي مناخ الحرية المأمول، سيسقط عذر بعض الحركات الإسلامية بخصوص عجزها عن استقطاب شرائح أوسع من تلك النخب الفكرية والاجتماعية والسياسية. ذلك العذر الذي كان يستمد وجاهته من انحيازهم إلى الطغاة وخوفهم على مكتسباتهم، فتلك النخب ستكون لها الآن مساحة أوسع من الخيار.
إنه ينبغي أن يكون من معالم الخريطة الجديدة في التعامل مع هؤلاء إدراكنا أن الإسلام، وإن كان أكثر أتباعه من الفقراء والمستضعفين، إلا أنه يسعى لجذب النخب التي يعول عليها في التمكين والنهضة، بل وفي حماية المستضعفين كذلك. إن العشرة المبشرين، بما فيهم الخلفاء الأربعة، كانوا من النخبة في مجتمعهم. ومن معالمها أيضًا إدراكنا بأن الأكثرية من النخب، والتي كانت تبدو بعيدة عن الحق، إنما هم مسلمون محبون لله ورسوله، ولكن فشو الباطل وذيوعه ودروس معالم السنن لبس عليهم، كما على غيرهم، كثيرًا من أمر دينهم. إن من هذه النخب أصحاب أيدلوجيات مخالفة للإسلام ومنهم من ليست لهم أيدلوجيات مخالفة، ومن الفريق الأول من هم علمانيون استئصاليون – والمقصود استئصال الدين – ومنهم من ليسوا كذلك.
العلمانيون
إن الالتباس الحاصل في مفهوم هذه الكلمة يجعل من الصعب الحكم على المنتسبين أو المنسوبين إليها. ولذلك فلا بد من التفريق بين صنفين منهم:
الصنف الأول هم العلمانيون بحق، وهم المؤمنون بأنه لا سلطان للسماء[i] على أهل الأرض. وإنما سميتهم العلمانيين بحق، لأن هذا المفهوم المقتضي نزع كل قداسة عن أحكام الشرائع السماوية هو أصل معنى مصطلح العلمانية إذا بحثنا فيه تأثيليًا (Etymologically). إن هؤلاء لهم أهداف واضحة لا خفاء فيها، وهي هدم مرجعية الإسلام في واقع الأمة، وهم في ذلك يشتركون مع أصحاب الشهوات وضعاف النفوس من النفعيين في النظام البائد، ومن ثم كان التوافق بينهم، ولكنهم يزيدون عليهم في إخلاصهم لهذا الباطل، وفي إصرارهم على محو تلك المرجعية من وعي وضمير ووجدان الأمة، ومن هنا جاء ضيق ذرع بعضهم ببطء ذاك النظام في تحقيق مقصودهم.
ينبغي أن ندرك طبيعة هذا الفريق من الناس من أجل أن نحسن التعامل معهم. إنهم قلة في المجتمع المصري، ولكنهم عالية أصواتهم، ولشذوذ أطروحاتهم فإنها تشتهر وتنتشر انتشار النار في يابس الحطب. وتعرف من لحن قولهم ازدراءهم – أو أكثرهم – لعموم المصريين، وهم كذلك في كل أمة مسلمة، يزدرون العامة المتعلقين بالدين والممارسين لشعائره، ويرونهم أغبياء وغير مثقفين. وهم يرون أنفسهم امتدادًا لماركس وسارتر وكاموس ورَسِل وغيرهم من فلاسفة الغرب. ولا أرى أن أكثرهم سيتورعون عن الاستقواء بخصوم الأمة من الخارج على خصومهم في الداخل.
هؤلاء يكفوننا عناء التفكير في تكييفهم الفقهي أو انتمائهم العقدي، فهم يضربون ويطعنون في أصل الدين سافري الوجوه ومكشري الأنياب، فمنذ قليل كنت أتابع مناظرة بين جامعية علمانية تونسية وزعيم لتجمع إسلامي، فوجدت المرأة تهاجم التفريق في الميراث بين الرجل والمرأة[ii]. إن المهم ملاحظته هنا هو أن هذا الحكم منصوص عليه في القرآن وهو من محكمات التنزيل، ووقع عليه الإجماع اليقيني القطعي. إن هذا مقصود لأنهم إن هدموا هذا فلهدم ما دونه أيسر وأهون. لعلهم لا يتوقعون أن ينهدم هذا سريعًا، ولكنهم في رفعهم لسقف إرجافهم إنما يريدون زعزعة الثوابت عند الأمة بالتدريج وإلفها لهذا الطرح مع تكرره وإجبار الإسلاميين على التقهقر والفرح بالحفاظ على هذه الثوابت! إن منهم مثلاً كتابًا تخصصوا في إسقاط تاريخ الإسلام، وتاريخنا نحن المسلمين به من الأخطاء الكثير مما اقترفته أيدينا ومما تؤخذ منه العبرة، ولكن هؤلاء يهدمون تاريخ الإسلام كدين وصيرورة حضارية.
إن الحذر من هؤلاء واجب والحزم في إبطال كيدهم متحتم وتجنب المداهنة معهم مهم. بعض الإسلاميين قد يسقط فريسة للفرح بالحرية، فينسى أن الدنيا كلها، لا الحرية وحدها، معبر للآخرة وجسر إليها. ما حالنا يوم تأتي الحرية بإطلاق أفواهنا والتوسعة علينا في الذهاب والمجيء والغدو والرواح والظهور والشهرة والأمن على أنفسنا وأموالنا، ثم نتغافل عن معاول هدم الدين وهي تعمل عملها في وجدان الأمة، ونغض الطرف عن الهادمين لمجرد اشتراكنا في عداوة النظام البائد وفرحنا بتحول أحوالنا. إن خصومتنا لهؤلاء ممن يحادون الله ورسوله لا تحتاج إلى إقامة الحجج الشرعية عليها، ولا ينبغي أن يسقطنا الخطاب التأليفي الذي محله مع غيرهم في مداهنتهم، فنلبس على الناس أمر دينهم ويصبح كل شيء محل نظر واجتهاد، ولكنه اجتهاد بلا زمام ولا خطام.
ولكن مع ذلك كله، فإن هناك معايير للتعامل مع كل البشر، حتى أشدهم عداوة؛ ذلك ما علمنا الإسلام. ومنها:
إننا مع اعتدادنا بديننا وأمتنا وإظهارنا لذلك ومع عدم خوفنا من كيد أحد، ولا من استقواء أحد علينا بأحد، فنحن أسرع الناس إلى كل خطة تحفظ مقدرات ومكتسبات الوطن وتمنع الفتنة والتهارج. شعارنا في الشطر الأول قوله تعالى: “يَـٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِـَٔايَـٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ ٱقْضُوا إِلَىَّ وَلَا تُنظِرُونِ” [يونس: 71] وفي الثاني قوله r لقريش يوم الحديبية وقد منعوه من البيت: ” وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْألُونَنِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فيها حُرُمَاتِ اللَّهِ إلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا”[iii] إن التحاكم إلى الأغلبية يمكن أن يعصمنا من الوقوع في فتنة تعمى فيها الأبصار ويكثر الهرج ويعجز العقلاء عن دفع السفهاء. إن من هؤلاء من يمكن الاتفاق معهم على وثيقة شرف للعمل السياسي ولإدارة الخصومة وقد قبل رسول الله بتعسف قريش في صلح الحديبية من أجل مصلحة تعظيم الحرمات وحقن الدماء وشيوع الأمن.
إننا معاشر المسلمين مع شدتنا في الحق، فإن الرفق ينبغي أن يبقى رفيقنا، كيف لا وها هي عَائِشَةَ تروي لنا عن رسول الله أروع الأمثلة على الرفق إذ قالت: “اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ من الْيَهُودِ على رسول اللَّهِ r فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ فقلت بَلْ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ فقال رسول اللَّهِ r يا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ في الْأَمْرِ كُلِّهِ قُلتُ أَلَمْ تَسْمَعْ ما قالوا قَال قَد قُلتُ وَعَلَيْكُمْ.” [متفق عليه] إن حوارنا مع هؤلاء لا ينبغي أن يكون فيه خفض للجناح فهذا مع المؤمنين الذين نعز بالذل لهم. ولكن عدم خفض الجناح لا يعني الفحش، فالمسلم ليس بالفاحش ولا المتفحش.
إن هؤلاء ينبغي أيضًا أن يطمئنوا إلى أننا لا نفجر في خصام أحد، وكيف نفعل، والفجور في الخصام ربع النفاق في نص حديث رسول الله المتفق عليه. فنحن لا نتوصل إلى هزيمة الخصم بالكذب، ولا نشهر بالأشخاص بالباطل، ولا نستطيل في الأعراض، ولا نأخذ أحدًا بجريرة صاحبه. بل إننا ينبغي أن نريهم الفرق بين أخلاق الإسلام وميكافيلية بعضهم، ففي ديننا، لا نخون من خاننا. يقول تعالى: “وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَٱنبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْخَائِنِينَ” [الأنفال: 58] ويقول رسول الله r: “أَدِّ الْأَمَانَةَ إلى من ائْتَمَنَكَ ولا تَخُنْ من خَانَكَ.”[iv]
الصنف الثاني: العلمانيون غير المدركين لحقيقة العلمانية في أصلها أو المتبنون لنسخة محورة منها. وأضم إليهم أصحاب التوجهات والمدارس السياسية والاقتصادية الوافدة كاليساريين والليبراليين والاشتراكيين، وأضم إليهم كذلك القوميين والوطنيين من غير الملتزمين بالمرجعية الإسلامية، فبين الجميع قدر من التداخل.
هؤلاء لهم وجود حاضر في الواقع المصري، وكثير منهم يحبون الله ورسوله ويقيمون الشعائر ويغارون على الدين، ولكنهم قصروا في الاطلاع على حقائقه والوقوف على دقائقه فحرموا أنفسهم من إدراك روعة دينهم وجماله وسلامة منطقه وكماله. وهؤلاء أصحاب شبه وتقسيمهم من جهة ما عندهم من الخير قريب من تقسيم الإمام ابن تيمية – رحمه الله – لأهل البدع إذ قال: “ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطنا وظاهرا لكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنة؛ فهذا ليس بكافر ولا منافق، ثم قد يكون منه عدوان وظلم يكون به فاسقا أو عاصيا؛ وقد يكون مخطئا متأولا مغفورا له خطؤه؛ وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه.”[v]
إن الذي ينبغي أن نستحضره كمبادئ للتعامل مع جمهور هؤلاء هو أنهم تثبت لهم فوق العدل الواجب لكل أحد حقوق الإسلام كذلك. ثم إن الرحمة بهم في تقويمنا لهم وتعاطينا معهم واجبة، إذ إن معالم الحق قد تراكم عليها غبار السنين العجاف الطويلة التي لم تبدأ في عهد الرئيس المخلوع ولا الذي قبله، بل قبل ذلك بكثير. ولكن الرحمة والرفق بأشخاصهم لا ينبغي أن يحملانا على موادعة أفكارهم.
أما العلمانية، فنحتاج إلى استفاضة البلاغ بــــــ “إنِ الحُكْمُ إلَّا لِلَّه” كما قال تعالى، وأن رد حكمه خروج من الدين. ونحتاج إلى توعية الجماهير أن هذا الفكر نشأ في بيئة مغايرة لبيئتنا. ما زلت أذكر مقالة أحد أساتذة اللاهوت بجامعة أوجزبرج بولاية منيسوتا الأمريكية في مؤتمر أقامته الجامعة وشاركت فيه بعرض رؤية الإسلام للخلق بينما عرض قس وحبر رؤية المسيحية واليهودية، فإذا بذلك الأستاذ يقول لي، “لقد وفر عليكم القرآن حرجًا كثيرًا سببته لنا تلك التفاصيل التي عندنا في سفر التكوين.” إن الكنيسة في أوروبا في العصور الوسطى مهدت إلى تلك العلمانية، فهم من جهة زعموا أن الله قال “أد ما لقيصر لقيصر وما لله لله” ومن جهة تسلطوا على الناس، حتى الملوك، وابتزوهم، وتحالفوا مع الملكية والإقطاع ضد الشعوب الكادحة ليكونوا الضلع الثالث في مثلث القهر الذي مورس على الكادحين؛ وهم مع ذلك باعوا صكوك الغفران وأرض الجنة بزعمهم. ولم يكتفوا بذلك، ولكنهم أنكروا العلوم العصرية، والقوانين الكونية، وأحرقوا العلماء. أفعل الإسلام بنا شيئًا من ذلك؟ ألم يقف العلماء – إلا من شذ – إلى جانب المستضعفين دومًا؟ ألم تخرج الثورات على الظلم والاحتلال في بلدنا مصر من الأزهر؟ يقول الشيخ علي الطنطاوي – رحمه الله -: “هذا حسين باشا الجزائري يصل مصر، فيفر منه أمراؤها إلى الوجه القبلي، فيأخذ أموالهم كلها، ولا يرضيه في عتوه وجبروته أن يستولي على عروضهم حتى يسطو على أعراضهم، فيقبض على نسائهم وأولادهم، ويسوقهم إلى السوق ليبيعهم زاعمًا أنهم أرقاء لبيت المال، وكانت الأحكام عرفية، وسيوف الظلم مصلتة، ولواء البغي مرفوعًا، ولكن ذلك لم يمنع علماء الأزهر من إنكار هذا المنكر، ولم يرهبوا بطش الباشا، وهم يرون أن أفضل الشهداء رجل قال كلمة حق عند إمام جائر فقتله بها، فمضوا إليه وتكلم الشيخ محمد أبو الأنوار فقال له: “أنت أتيت إلى هذه البلدة، وأرسلك السلطان لإقامة العدل، ورفع الظلم كما تقول، أو لبيع الأحرار وأمهات الأولاد وهتك الحريم؟ فقال: هؤلاء أرقاء لبيت المال قال: هذا لا يجوز ولم يقل به أحد. فغضب أشد الغضب وطلب كاتب ديوانه، وقال: اكتب أسماء هؤلاء، وأخبر السلطان بمعارضتهم لأوامره. فقال له الشيخ محمود البنوفري: اكتب ما تريد بل نحن نكتب أسماءنا بخطنا”.”[vi]
وأما المناهج الأخرى، فتحتاج إلى بيان حقيقتها والموافق منها لمرجعيتنا الإسلامية والمخالف. على سبيل المثال، الديمقراطية إذا كانت تعني حكم الغالبية، فنحن نقر بذلك أصالة ولكونه السبيل الوحيد إلى الأمن والاستقرار ومنع الفتنة وإن كان في تراثنا التسليم لإمارة الغلبة من أجل هذه المصالح، فلحكم الأغلبية أرشد منها وأوفق. إن عقد الإمامة لم يثبت لعمر t بعهد أبي بكر t ولكن بقبول المسلمين بعد ذلك وبيعتهم، كما ذكر الإمام ابن تيمية – رحمه الله. وعمر جعل الأمر في ستة وجعل معهم ابن عمر ليرجح بينهم إذا اختلفوا، وفيه مراعاة لمعنى الأغلبية العددية.[vii] وإن كانت الديمقراطية تعني سيادة القانون والمساواة بين الناس أمامه، فنحن أيضًا مع ذلك؛ وإن كانت تعني الحفاظ على كرامة الآدميين، فنعما هي؛ وإن كانت تعني حرية التعبير، فحيهلا، ولكن هل حرية التعبير لا سقف لها؟ ألا يجرمون في بعض بلاد أوروبا إنكار المحرقة النازية؟ أليست هناك قيم لكل مجتمع يسعى لحمايتها؟ من الذي قال إن الطعن في ذات الله من حرية التعبير المحمودة، وماذا يبقى بعد ذلك؟ كان كثير من الليبراليين أنصار حرية التعبير في الزمان السابق لا يتجرؤون على ذكر الرئيس بسوء، ولكن سب الله وعيبه عندهم حق من حقوق الإنسان. هلا احتكمنا إلى شعب مصر نفسه فيما إذا كان يعتبر العيب في ذات الله أو تجريح الأنبياء من تلك الحرية المطلوبة؟ أم الشعب ساعتها لا قول له؟ بقي أن الديمقراطية تجعل التشريع للشعب والإسلام يجعله لله، ولكن من حيث التطبيق، فإن الشعب المسلم هو الذي سيختار حكم الله.
إن هجوم الدعاة على الديمقراطية أمر مؤسف لأنهم سيظن بهم أنهم يدعون إلى الطغيان، ولكن في نفس الوقت، لماذا لا نسمي هذا النظام الذي يقر بحكم الأغلبية وسيادة القانون وحفظ الحقوق نظامًا شوريًا وحكمًا رشيدًا؟ ليتفكر العقلاء في ذلك، فإن تسمية نظامنا بالديمقراطية يجعلنا أسرى في التطبيق لمن يراهم العالم أحق بها وأهلها، وساعتها لن تكون الانتخابات الشفافة التي تأتي بحماس ديمقراطية، بل وربما فرضوا علينا قيمًا خارجة عن مرجعيتنا الإسلامية ومنظومتنا الثقافية بزعم أننا لا نكون ديمقراطيين بدونها، فنبقى نلهث وراء القوم، ولن نرضيهم. الحق أن نفصل، وأن نوقف الناس على ما نتحفظ عليه مما يجعله أصحاب هذا المسلك من أركانه أو شروطه. يمكن أن نقول مثلاً إن إجماع مجلس الشعب، بل وكل المجالس، على حل الخمر لن يجعلها حلالا، وفي هذا المثال بيان المقصود بعبارة لا تستهجن ويفهمها العام والخاص ولا يجد مسلم مدفعًا لها.
ومن جهة أخرى لا بد من دراسة مثالب الممارسات الديمقراطية بالغرب لتفاديها؟ أليس المال يصنع الإعلام والإعلام يشكل وعي الجماهير التي تذهب بالملايين لتختار أحد رجلين أو رجال لا تعرف عنهم سوى ما ينقله الإعلام إليها؟ إن الأوفق هو النظام البرلماني التصعيدي، فإن انتخاب رجل من القرية أو الضاحية يعرفه أهلها غير انتخابهم لصور رجال ترسمها ريشة أصحاب النفوذ والمال. إن هذا الأمر قد خف بعد ثورة المعلومات التي كسرت احتكار الإعلام ولكنه باق إلى حد ما. ثم أليست الديمقراطية هي التي مكنت أصحاب النفوذ واللوبيات من السيطرة على مجريات الأمور في بلد كالولايات المتحدة؟ ألم نكتوِ نحن المسلمين والعرب خصوصًا ببعض هذه اللوبيات كلوبي صناع السلاح واللوبي الصهيوني؟[viii] إن هناك من يصرخ في الغرب للنظر في التجربة الديمقراطية وتصحيح مسارها، فأرجو ألا نكتفي نحن بالنقل والمتابعة للتجربة القائمة حذو القذة بالقذة. كيف يرضى العقلاء بنقل تجارب بشرية بحلوها ومرها كما نسب إلى بعض المستغربين؟
ثم إن الديمقراطية في الحقيقة أقرب إلى الآلية منها إلى المرجعية. إن المرجعية في الغرب هي الليبرالية، وتنازعها المرجعية الدينية المسيحية، والتي يتصاعد دورها في هذه الأيام سيما في الولايات المتحدة، بما في ذلك الجناح المتصهين منها. إنه لا بد من مرتكز تدور الديمقراطية في فلكه، وإلا فالانجراف في كل اتجاه ممكن جدًا في تلك الممارسة. إننا ينبغي أن ندفع باتجاه حكم شوري تكون الشورى فيه ملزمة إلا في صلاحيات مقررة للرؤساء كما هو الحال في كل العالم. وهذا الحكم مرجعيته إسلامية. يا أصحاب العقول، أوأفلحت في الشرق غير المرجعية الدينية؟ فإذا كان الإسلام هو اختيار الغالبية الساحقة من الناس، فكيف يسوغ لعاقل أن يهدم مرجعية منيفة كهذه ليقع الناس في فراغ لا يملؤه إلا الأسى والندم. والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إن مسيحيي الشرق العقلاء ينبغي أن يدافعوا عن مرجعية الإسلام إن كانوا يريدون أمن وسلامة أوطانهم وأنفسهم، فإن المسلمين لن يتبخروا، وإنهم لن يخضعوا وينقادوا لمرجعية أخرى، فإن فقدت الغالبية البوصلة، فليس إلا البؤس ينتظر الجميع.
أما وقد ذكرنا المرجعية الإسلامية، فإن هذه النخب ينبغي طمأنتها إلى عدة أمور من أهمها خوفهم من تسلط الإسلاميين بالثيوقراطية والجمود والديماجوجية والرعونة:
الثيوقراطية: إن المرجعية الإسلامية ليست مرجعية الإسلاميين، بل الإسلام. إن كلمة أبي بكر في خطبته الأولى “وإن أسأت فقوموني” تكفي لبيان أنه ليس ثمة ثيوقراطية في الحكم الإسلامي. إن الأمور المجمع عليها قليلة والمختلف فيها كثيرة، وحكم الحاكم يرفع الخلاف في أمور العامة والقضاء، فأهل الحل والعقد أو المجالس المنتخبة ستستمع إلى أقوال العلماء وتختار منها الأظهر والأصلح. كما إن أكثر المسائل التي يناط فيها الحكم بالموازنة بين المصالح والمفاسد سيحسم نتيجتها قول الخبراء بتلك الموازنات. من جانبنا نحن الإسلاميين، فالواجب أن نخفف من القطعية والحدية في طرحنا، فبعضنا يكثر من التخريج على الأصول المتفق عليها فروعًا كثيرة يضمها إلى أصولها فيبدو أنها كلها ذات قيمة واحدة ومن قطعيات الدين، وما هي إلا اجتهادات. إن المتقرر عند أهل السنة أنه ليس يخرج عن دائرة النقاش والأخذ والرد إلا نصٌ محكمٌ صحيحٌ أو إجماعٌ ثابتٌ صريحٌ أو أوائلُ العقلِ والحسِّ التي لا يختلف عليها ذوو الحِجا.
الجمود: إن الإسلام لم يحاصر العقل البشري المبدع في شتى المجالات المعرفية، وإن تعاليم الإسلام في غير أبواب العبادات والآداب جاءت مُجمَلَة وتركت مساحة واسعة للناس لتدبير أمورهم. هذه المرونة كانت سببا في صلاح الشريعة للتطبيق في أمصار وأعصار شتى. وكذلك فإن الإسلام يقر بالاستفادة من كل حكمة، فلا بأس من النظر في شتى النظريات السياسية والاقتصادية والاستفادة من كل صالح فيها، ولكن مع الوعي الذي يعين على تمييز الطالح. قال رسول الله r: “لقد هَمَمْتُ أَنْ انهي عن الْغِيلَةِ حتى ذَكَرْتُ أَنَّ الرُّومَ وَفَارِسَ يَصْنَعُونَ ذلك فلا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ.”[ix] ما أعظم هذا الرسول فهو أتم الناس عقلاً وأوسعهم علمًا وأصوبهم حكمًا، ثم ينظر في أحوال الأمم مستفيدًا من تجاربهم.
الديماجوجية: قد تأخذ بعض النخب على بعض الإسلاميين خطابهم الشعبوي التعبوي العاطفي غير العلمي وغير المراعي لأمانة التحقيق (الخطاب الديماجوجي)، والإنصاف أن من الإسلاميين من يعتمد هذا النوع من الخطاب. أما مجرد اللوم على الخطاب العاطفي، فهذا من اللوم على المحاسن، فعبقرية الإسلام أنه يوازن بين المادة والروح والعاطفة والعقل. ولكن الخطاب العاطفي لا ينبغي أن يتغافل الحقائق أو يروج الأوهام. إن سلفنا الصالح ضربوا أروع الأمثلة في مراعاة الحقيقة والحرص على التحقيق، فإن أردنا أن تبرأ ساحتنا من تهمة الخطاب الديماجوجي، فطريقهم واضحة. ينبغي أن يستوثق الدعاة لفتواهم أو رأيهم سيما في الأمور العامة، وإن كان ذلك لازمًا في وقائع الأعيان كذلك. ومن العجيب أن تجد بعض الفقهاء يتساهلون في قبول الحكايات المرسلة وآراء هذا الخبير أو ذاك، والبحث العلمي الآن يجعل رأي الخبير من الأدلة الضعيفة. إن الفقه قد سبق البحث العلمي بقرون في ترتيب درجات قوة الدليل، فالقرآن والسنة مقدمان على غيرهما، والنص المجمع عليه مقدم على المختلف فيه، وعبارة النص مقدمة على دلالته (مفهوم الموافقة)، وتلك مقدمة على إشارته – عند غير الحنفية ([x])- ثم تأتي دلالة الاقتضاء. ومفهوم المخالفة – عند من يعمل به – أنواع بعضها فوق بعض([xi]). إن الفقيه ينبغي أن يدرك واقع المسألة بعينها التي يفتي فيها ويستفرغ الوُسْع في الإحاطة بها ولا ينبغي أن يقنع بدَلالة ضعيفة في بناء الحكم، أو أخرى مُعارَضة بما هو أقوى منها.
الرعونة: وبعض هؤلاء قد يكون تخوفه من الإسلاميين نابعًا من ظنه أنهم قد يوترون العلاقات مع بلاد العالم ويغررون بالوطن وأهله ويتكلفون ما لا يطيقون من عداوات للشرق والغرب. وهذا الهاجس ينبغي طمأنة أصحابه أنه على خلاف الواقع، وأن أكثر الإسلاميين فيهم من الرشد والتعقل ما يحجزهم عن مثل هذا الطيش والتسرع. كذلك فإن التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية بحسب ما يقتضيه الحال أمر لا خلاف بين أكثر الإسلاميين على أنه المسلك الموافق لمقتضى الحال، فإن للحكم الشرعي – كما قال الإمام الشاطبي – اقتضاء أصلي قبل طروء العوارض، وهو الواقع على العمل مجردًا عن التوابع والإضافات، واقتضاء آخر بعد إضافة العوامل الخارجة عن العمل والمؤثرة فيه.
ويبقى توجس بعضهم من الإسلاميين نابعًا من خوفه على مكاسب شخصية أو منصب يفقده لهم، وهؤلاء لا حيلة معهم إلا الدعاء لهم والصبر عليهم وأن نعرفهم بممارستنا أن عموم الإسلاميين لا يريدون دنياهم إلا ما كان منها معبرًا للآخرة. وقد لا يجدي مع بعضهم شيء من هذا، وتبقى غصصهم في حلوقهم وتستمر حملتهم على الإسلاميين حسدًا من عند أنفسهم، وساعتها يقال “فَٱصْبِرُوا حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَـٰكِمِينَ.” [الأعراف: 87] ولا بأس بتحمل بعض الحاسدين في الدنيا، بل قد علمنا أنهم باقون وما من أحد تصدى لأمر ذي خطر إلا حسد. قال أبي بن حمام المري:
تمنى لي الموت المعجل خالدٌ … ولا خير فيمن ليس يعرف حاسده
في المقال القادم نناقش – إن شاء الله – التعامل مع النخب من غير أصحاب الأيدلوجيات المغايرة والمخالفة للإسلام وكذلك عموم الناس.
[i] الحكم عندنا نحن المسلمين لله، والسماء لا سلطان لها ولا يعبر بها عن حكم الله أو ذاته تعالى.
[ii] وهو مقتضى الحكمة، بل قال العلامة محمد رشيد رضا أن فيه تفضيلا للمرأة رحمة بها، فما يأخذه الرجل من والده فلامرأته وأولاده فيه نصيب، وما تأخذه المرأة، فكله لها ولا تطالب بالنفقة على زوجها، فإن أعطته فصدقة أو هدية. والأم تأخذ كالأب مع وجود الأبناء. وهناك أحوال ترث فيها المرأة كالرجل وأحوال ترث ولا يرث كأم الأم في غياب الأم، فإنها ترث ولا يرث زوجها.
[iii] رواه البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان.
[iv] رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة.
[v] مجموع الفتاوى 3/354 (مكتبة ابن تيمية، الطبعة الثانية)
[vi] في سبيل الإصلاح للشيخ علي الطنطاوي، دار المنارة، ط6، 1427هـ (ص 114)
[vii] انظر كتاب الحرية أو الطوفان للدكتور حاكم المطيري فإنه نفيس ومهم.
[viii] انظر (بالإنجليزية) كتاب: The Best Democracy Money Can Buy, Publisher: Pluto Press | 2002
[ix] مسلم عن عن جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ الْأَسَدِيَّةِ
([x]) فهم يقدمون إشارة النص على دلالته، لأن الإشارة مأخوذة من النظم فكانت من المنطوق المقدم على المفهوم. والجمهور على تقديم دلالة النص لأنها تفهم لغة منه، أما الإشارة فلا يدركها كل أحد لأنها تفهم من اللوازم البعيدة. انظر «أصول البَزْدَوِيّ» (1/120).
([xi]) انظر «أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء» لمصطفى الخِنّ (ص127).