هذه مسألة من مسائل الفقه الإسلامي المهمة والتي تستأهل البحث والتدقيق، سيما ممن تكثر مخالطتهم لغير المسلمين، كالأقليات المسلمة خارج بلاد المسلمين. وفي المسألة ستة أقوال:
- مخاطبون بفروع الشريعة
- غير مخاطبين بفروع الشريعة
- مخاطبون، لكنه خطاب معاقبة في الآخرة لا مطالبة في الدنيا
- مخاطبون بالنواهي دون الأوامر
- مخاطبون بالأوامر دون النواهي
- المرتد مخاطب دون الكافر الأصلي
وسؤال المطلب مركب، وإن كان ثمة انفكاك بين طرفيه، لكن لا يخفى أن القائل بمخاطبتهم بفروع الشريعة سيضيق فيما يحل للمسلم من أنواع التعامل معهم المؤدية إلى إعانتهم على المعصية. ولتسهيل إدراك المسألة، يمكن أن يقال في الجواب إن هناك ثلاثة اتجاهات رئيسة.
- نعم، الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، ولا يحل إعانتهم على المعاصي.
والقائلون بهذا هم الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وبعض الحنفية
- لا، الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، فترى هذا الفريق يجوزون للمسلم كثيرا مما يعده مخالفوهم إعانة على المعاصي، ما لم يتلبس المسلم بمباشرة المحرم
والقائلون بهذا هم جمهور الحنفية ووقع القول به من جهة الأصول عند بعض المالكية والشافعية والحنابلة، وإن كان تفريعهم عليه قليلا
والفرق بين هؤلاء وسائر القائلين بخطابهم لطيف، فلم يطالب القائلون بخطابهم الكفار بالعبادات، فهم يوافقون هذا الفريق على عدم المطالبة من تلك الجهة، ولكن هذا الفريق يؤكدون على هذا المعنى فيتوسطون بين الفريقين ويجوزون للمسلم بعض ما يجوزه الفريق الثاني ويمنعون بعضه.
وإلى هذا القول ذهب الإمام تقي الدين ابن تيمية، ووافقه جمع من أهل العلم.
وهذا عرض بأقوالهم وأدلتهم
وقد ذهب إلى هذا القول الشافعية والحنابلة في الصحيح، وهو مقتضى قول مالك وأكثر أصحابه، وهو قول العراقيين من الحنفية.[1]
أهم أدلة هذا الفريق:
- قوله تعالى : “مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ” [المدثر: 42-43]
وقوله تعالى : “إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ” [الحاقة: 33-34]
ووجه الدلالة من الآيات أنهم يعذبون لتركهم لهذه الفروع من الصلاة والصدقة، وهناك غيرها كثير مما جاء فيها ذمهم على ترك الطاعات وفعل المحرمات.[2]
- ومنها قوله r: “مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ.” رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود. والحديث يدل على مؤاخذته بما اقترف حال كفره.
- ومنها قوله r: “أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ على الله.” رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر وأبي هريرة. قال الإمام الخطابي – رحمه الله: “وفي هذا الحديث حجة لمن ذهب إلى أن الكفار مخاطبون بالصلاة والزكاة وسائر العبادات، وذلك لأنهم إذا كانوا مقاتلين على الصلاة والزكاة فقد عقل أنهم مخاطبون بهما.”[3]
- وقالوا إن الكفر لا يصلح للتخفيف برفع التكليف.[4] وأجاب الحنفية – كما يأتي – بأنه ليس تخفيفًا.
- وجوب حد الزنا والسرقة على أهل الذمة عقوبة لهم على فعلهم.[5] وقد يجاب عليه بأنه خارج محل النزاع، ولكن للجمهور الاعتراض على التفريق.
- وأجابوا عن الاعتراضات بما يأتي: “فإن قال قائل: “كيف يجوز أن يكونوا مخاطبين بها ولا يصح منهم فعلها قبل الإسلام في حال الكفر”، قيل له: لأنه قد جعل لهم السبيل إلى فعلها بأن يسلموا ثم يأتوا بها، كما أن الجنب لا يصح منه فعل الصلاة في حال الجنابة، ولم يسقط عنه فرضها، إذ كان قد جعل له السبيل إلى فعلها بطهارة يقدمها أمامها، كذلك الكافر قد جعل له السبيل إلى التمسك بشرائع الإسلام بأن يقدم أمامها فعل الإيمان. فإن قال: لو كانوا مخاطبين بها لما جاز إقرارهم على تركها كالمسلمين، قيل له: هم مخاطبون بالإيمان عند الجميع وقد أقروا على تركه بالجزية، كذلك شرائعه.”[6]
وإليك جملة من نصوصهم في هذا الشأن وتطبيقاتهم
قال أبو بكر الجصاص الحنفي “والكفار مكلفون بشرائع الإسلام وأحكامه كما هم مكلفون بالإسلام.” [7]
فالحنفية إذا ليسوا على قول واحد في هذا الباب، وإن كان المعتمد عندهم عدم مخاطبتهم.
أما المالكية، فيذكرون خلافًا في خطاب الكافر ويفرعون عليه، ففي التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب: “وإذا كان تجره للسيد وهو نصراني لم يجز لسيده تمكينه من تجر في خمر ونحوه، فإن كان لنفسه ففي جواز تمكينه: قولان، لأنه إذا تجر لسيده فهو كوكيل له فلذلك لا يجوز لسيده أن يمكنه من شراء خمر ونحوه، وأما إن تجر لنفسه وعامل أهل الذمة فقولان أجراهما اللخمي على أنهم: هل هم مخاطبون بفروع الشريعة فلا يمكن، أم ليسوا بمخاطبين فيمكن؟ وقد يجريان على أن من ملك أن يملك هل يعد مالكا أم لا؟ اللخمي: وكان لابن عمر رضي الله عنهما عبد نصراني يبيع الخمر فمات فورثه.”[8]
لكن المعتمد عندهم، والذي استقر التفريع عليه، هو مخاطبتهم، ففي مواهب الجليل: “وقد ذكر ابن رشد في البيان أن إجارة المسلم نفسه من النصراني واليهودي على أربعة أقسام: جائزة ومكروهة ومحظورة وحرام،
- فالجائز أن يعمل له المسلم عملا في بيت نفسه كالصانع [كالحائك والقصار] الذي يعمل للناس،
- والمكروهة أن يستبد بجميع عمله من غير أن يكون تحت يده مثل أن يكون مقارضا، أو مساقيا،
- والمحظورة أن يؤاجر نفسه في عمل يكون فيه تحت يده كأجير الخدمة في بيته وإجارة المرأة لترضع له ابنته في بيته، وما أشبه ذلك فهذه تفسخ إن عثر عليها، فإن فاتت مضت، وكانت لها الأجرة،
- والحرام أن يؤاجر نفسه منه فيما لا يحل من عمل الخمر أو رعي الخنازير، فهذا يفسخ قبل العمل، فإن فات تصدق بالأجرة على المساكين.”[9]
وفي التبصرة للخمي تفصيل حسن لدرجات المنع. قال – رحمه الله:
“ومن “المدونة” قال مالك: لا يعجبني أن يكري الرجل داره ممن يتخذها كنيسة ولا يبيعها ممن يتخذها كنيسة، ولا يبيع شاته من مشرك يذبحها لعيده، ولا يكري حانوته لمن يبيع فيها خمرًا، ولا يؤاجر نفسه ولا دابته في حمل خمر، فإن فعل فلا أجر له، ويفعل فيه إن قبض أو لم يقبض بمنزلة ما وصفت لك في ثمن الخمر، فجعله بمنزلة من باع خمرًا.
وقال في “العتبية”: “إن أكرى دابته لمن يصل عليها إلى الكنيسة، أو باع شاته من نصراني ليذبحها لعيده مضى، ولم يرد. وإن أكرى حانوته ممن يبيع فيه خمرًا أو عنبه ممن يعصره خمرًا فسخ، فإن فات مضى ولم يرد. فأباح له أخذ الثمن… قال الشيخ أبو الحسن: أخف هذه الأشياء كراء الدابة لمن يصل عليها إلى الكنيسة، وبيع الشاة لعيده، ثم بيع العنب ممن يعصره خمرًا، وبيع الدار ممن يتخذها كنيسة، ثم كراء الحانوت ممن يبيع فيها خمرًا، وكذلك الدار ممن يتخذها كنيسة، ثم إجارة الإنسان نفسه ممن يحمل له خمرًا أو يرعى له خنازير، وهذا أشدها.”[10]
والظاهر من كلام السادة المالكية أن:
- مباشرة المسلم للمحرم كحمل الخمر ورعي الخنازير محرم عندهم، ولا يستحق الأجر، وقد اختلفوا في قبضه من الكافر والتصدق به إن كان قد أدى العمل، أو تركه، ورجحوا الأول وهو اختيار ابن القاسم.[11]
- والدرجة الثانية عندهم التي عبروا عنها بالحظر دون التحريم، وهو ما منع سدًا للذريعة، والمالكية والحنابلة يقولون به، أو ما ظهر فيها إذلال المسلم للكافر بخدمته له في بيته، وفسخوا العقد، ولكنهم اختلفوا في إباحة الثمن بعد أداء العمل، والصحيح أن الثمن له، لكن “إن واجره على حمل زق زيت معين بعشرة فظهر أنه خمر تصدق بفضل قيمة حمله خمرًا على المسمى.”[12]
- والدرجة الثالثة التي عبروا عنها بالكراهة هي التي راعوا فيها معنى إذلال المسلم لنفسه بخدمة الكافر بأن يستبد بجميع عمله من غير أن يكون تحت يده مثل أن يكون مقارضا أو مساقيا. وقد أباحوا له الثمن في هذه الحالة.
- وأجازوا للمسلم أن يعمل للكافر عملا في بيت المسلم كالحائك الذي يعمل للناس، وعمل الطبيب قريب من هذا.
أما الشافعية، فالأمر عندهم، وإن وقع شيء من الخلاف، مستقر على خطابهم وحرمة إعانتهم، وفي تحفة المحتاج: “… لأنهم مكلفون بالفروع، ولم ينكر عليهم كالكفر الأعظم لمصلحتهم بتمكينهم من دارنا بالجزية ليسلموا، أو يأمنوا. … وإنما جاء الشرع بترك التعرض لهم، والفرق أن التقرير يوجب فوات الدعوة بخلاف ترك التعرض لهم، لأنه مجرد تأخير المعاقبة إلى الآخرة. انتهى. ولكون ذلك [بناء الكنائس] معصية حتى في حقهم أيضا، أفتى السبكي بأنه لا يجوز لحاكم الإذن لهم فيه، ولا لمسلم إعانتهم عليه، ولا إيجار نفسه للعمل فيه، فإن رفع إلينا فسخناه.[13]
ويبين النووي الفرق بين المخاطبة والمطالبة ويشير إلى الاتفاق عندهم على عدم المطالبة والاختلاف في المخاطبة، فيقول: “وأما الكافر الأصلي فاتفق أصحابنا في كتب الفروع على أنه لا يجب عليه الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها من فروع الإسلام. وأما في كتب الأصول، فقال جمهورهم هو مخاطب بالفروع كما هو مخاطب بأصل الإيمان، وقيل لا يخاطب بالفروع، وقيل يخاطب بالمنهي عنه كتحريم الزنا والسرقة والخمر والربا وأشباهها دون المأمور به كالصلاة. والصحيح الأول، وليس هو مخالفا لقولهم في الفروع، لأن المراد هنا غير المراد هناك، فمرادهم في كتب الفروع أنهم لا يطالبون بها في الدنيا مع كفرهم وإذا أسلم أحدهم لم يلزمه قضاء الماضي ولم يتعرضوا لعقوبة الآخرة؛ ومرادهم في كتب الأصول أنهم يعذبون عليها في الآخرة زيادة على عذاب الكفر.”[14]
أما الحنابلة، فقد وقع عندهم الخلاف في الأصل والتفريع، وإن كان المذهب هو مخاطبتهم بفروع الشريعة وعدم جواز إعانتهم على المعاصي. وهذا تفصيل حسن من ابن اللحام – رحمه الله – قال فيه: “الكفار مخاطبون بالإيمان إجماعاً، وبفروع الإسلام في الصحيح عن أحمد. وفي رواية: لا يخاطبون بالأوامر، ويخاطبون بالنواهي. وحكى بعض أصحابنا رواية: أنهم غير مخاطبين بشيء من الفروع، الأوامر والنواهي.
إذا تقرر هذا: فهل يظهر للخلاف فائدة في الدنيا، أو فائدة التكليف – إذا قلنا به – زيادة العقاب في الآخرة؟ غالب الأصوليين: أن فائدته زيادة العقاب في الآخرة فقط. وقيل: للخلاف فائدة في الدنيا. والذي يظهر: أن بناء الفروع التي تتعلق بالكفار على الخلاف في المسألة غير مطرد ولا منعكس في جميعها.
مسائل تتعلق بالكفار بناها بعضهم على التكليف بالفروع وعدمه:
الأولى: أن الزوج لا يُجبِر الذمية على غسل الحيض، وأنه يطأ بدونه.[15] ولعل هذا مبني على أنهم ليسوا بمخاطبين. …
الرابعة: هل يجوز للكافر لبس الحرير؟ المذهب: لا يجوز. وبناه بعض الأصحاب على القاعدة. واختار أبو العباس ابن تيمية: الجواز…
السادسة: أن أهل الذمة هل يمنعون من إظهار الأكل والشرب في نهار رمضان؟ المذهب: يمنعون. وهذا قد يكون مبنيًّا على تكليفهم.”[16]
وللحنابلة تفريع آخر على هذه المسألة، وهو جريان الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب، ففي معونة أولي النهى: “(ويحرم الربا بدار حرب)؛ لعموم الكتاب والسنة، ولأن دار الحرب كدار البغي؛ لأنه لا يد للإمام عليها، (ولو بين مسلم وحربي) بأن يأخذ المسلم زيادة من الحربي؛ لما تقدم، ولنص الإمام على تحريمه مطلقاً. وعنه، لا يحرم بين مسلم وحربي لا أمان بينهما؛ لما روى مكحول مرفوعاً: “لا ربا بين المسلم وأهل الحرب في دار الحرب “.ورد: بأنه خبر مجهول لا يترك به تحريم ما دل عليه القرآن والسنة.”[17]
وفي إجارة المسلم للذمي، إن كانت لعمل في الذمة، فالمذهب الجواز قطعًا. وإن كانت لعمل مباح غير الخدمة مدة معلومة، فروايتان، والمذهب الجواز. وإن كانت للخدمة، فروايتان، والمذهب المنع (وفاقًا للمالكية وخلافَا للحنفية والشافعية في الجديد). وإن كانت لعمل مكروه، فمكروهة، ولعمل محرم، فحرام. وفي كشاف القناع: “(ولا بأس أن يَحفِرَ للذمي قبرًا بالأجرة) كبناء بيت له بالأجرة. (ويُكره) دفن المسلم للذمي (إن كان) المدفون فيه (ناووسًا) لأن فيه إعانة على مكروه. والناووس: حجر يُنقر ويُوضع فيه الميت.”[18]
وفي الإنصاف: “تجوز إجارة المسلم للذمي، إذا كانت الإجارة في الذمة [كخياطة الثوب وقصارته]، بلا نزاع أعلمه. ونص عليه في رواية الأثرم. قال ابن الجوزي في المذهب: يجوز على المنصوص…
وفي جواز إجارته له لعمل غير الخدمة مدة معلومة، روايتان. وأطلقهما في الفروع والنظم؛ إحداهما، يجوز؛ وهو المذهب… والثانية، لا يجوز ولا يصح.
وأما إجارته لخدمته، فلا تصح. على الصحيح من المذهب، ونص عليه في رواية الأثرم… وعنه، يجوز.”[19]
ولا يجوز بيع محرم لهم كالأدهان النجسة، وإن وقع فيه خلاف:
وفي الشرح الكبير، يقول الإمام ابن أبي عمر – رحمه الله:
“(ولا يجوز بيع الادهان النجسة) في ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه لأن أكله حرام لا نعلم فيه خلافا لأن النبي r سئل عن الفأرة تموت في السمن فقال “إن كان مائعاً فلا تقربوه” – من المسند. وإذا كان حرامًا، لم يجز بيعه، لقول النبي r “إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه”، ولأنه نجس فلم يجز بيعه قياساً على شحم الميتة.
وعنه: يجوز بيعه لكافر يعلم نجاستها، لأنه يعتقد حلها ويستبيح أكلها، ولأنه قد روي عن أبي موسى: “لتوا به السويق وبيعوه ولا تبيعوه من مسلم وبينوه.” والصحيح الأول، لقول النبي r “لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها، إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه.” متفق عليه. ولأنه لا يجوز بيعها من مسلم فلا يجوز بيعها لكافر كالخمر والخنزير فإنهم يعتقدون حله، ولا يجوز بيعه لهم، ولأنه دهن نجس، فلم يجز بيعه لكافر كشحوم الميتة. قال شيخنا [الموفق] ويجوز أن يدفع إلى الكافر في فكاك مسلم، ويعلم الكافر بنجاسته، لأنه ليس ببيع في الحقيقة إنما هو استنقاذ المسلم به.”[20]
ولا يجوز عند الحنابلة بيع العنب لمتخذها خمرًا من أهل الذمة، ففي كشاف القناع: “(ولا يصح بَيْعُ ما قُصِدَ به الحرام، كعِنَبٍ و) كـ (ـعصير لمتَّخذِهما خمرًا) وكذا زبيب، ونحوه (ولو) كان بيع ذلك (لذمِّي) يتخذه خمرًا؛ لأنهم مخاطَبون بفروع الشريعة (ولا) بيعُ (سلاح، ونحوه في فتنة)، أو لأهل حَربٍ، أو لِقُطَّاع طريق، (إذا علم) البائع (ذلك) من مشتريه (ولو بقرائن) لقوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.[21] بل كره أحمد أن يؤاجر الرجل نفسه لنظارة كرم النصارى؛ قال؛ لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر فلا بأس.”[22]
بل ولا يصح بيع الخمر، ولو بين ذميين، وفي كشاف القناع: “(ولا) يصح (بيع لَبَنِ رَجُل) فلا يضمن بإتلاف (ولا) بيع (خمر ولو كانا) أي: المتبايعان (ذِميين) لحديث جابر: سمعت رسول الله r يقول: “إنَّ الله ورسولهُ حرَّمَ بيعَ الخمرِ والميتةِ والخنزيرِ والأصنامِ” متفق عليه.”[23]
لكن إن باعوها، جاز لنا عند الحنابلة أخذ ثمنها في ثمن مبيع أو إجارة، وفي كشاف القناع: “(ويجوز أخذ ثمن الخمر والخنزير عن الجزية والخراج إذا تولوا بيعها وقبضوه) أي: الثمن، لأنه من أموالهم التي نقرهم على اقتنائها كثيابهم. قال في أحكام الذمة قلت: ولو بذلوها في ثمن مبيع أو إجارة أو قرض أو ضمان أو بدل متلف، جاز للمسلم أخذها وطابت له.”[24]
ولا يجوز عند الحنابلة أن نعينهم على معصية ثابتة عليهم، وإن لم نعدها معصية، ففي شرح المنتهى للبهوتي: “(ويحرم علينا إطعامهم) أي اليهود (شحما) محرما عليهم (من ذبيحتنا لبقاء تحريمه) عليهم نصا لثبوت تحريمه عليهم بنص كتابنا. فإطعامهم منه حمل لهم على المعصية، كإطعام مسلم ما يحرم عليه. (وتحل ذبيحتنا لهم مع اعتقادهم تحريمها) لقوله تعالى {وطعامكم حل لهم} [المائدة 5].”[25]
ولا يجوز عند الحنابلة بيع دار لهم يبيعون فيها الخمر أو يتخذونها كنيسة أو يؤاجرها ممن يتخذها بيت نار أو كنيسة أو يبيع فيها الخمر، فإن لم يكن شيء من ذلك، فهل يجوز بيع الدار مع علمه بما يفعلونه بها من معاص؟ قولان، والصحيح الجواز مع الكراهة. قال في الفروع: “قوله: وإن باع أو آجر مسلم داره من كافر، فنقل المروذي: لا تباع، يضرب فيها بالناقوس وينصب فيها الصلبان! واستعظم ذلك وشدد فيه … وقال أبو بكر عبد العزيز: لا فرق بين البيع والإجارة، وإذا منع البيع منع الإجارة … قال ابن أبي موسى: كره أحمد أن يبيع داره من ذمي يكفر فيها ويستبيح المحظورات، فإن فعل لم يبطل البيع، وكذا قال الآمدي وأطلق الكراهة مقتصرا عليها، ومقتضى ما سبق من كلام الخلال وصاحبه تحريم ذلك، قاله شيخنا [ابن تيمية]. وقال القاضي: لا يجوز أن يؤاجر داره أو بيته ممن يتخذه بيت نار أو كنيسة أو يبيع فيه الخمر. قال شيخنا: فقد حرم القاضي إجارتها لمن يعلم أنه يبيع فيها الخمر، مستشهدا على ذلك بنص أحمد، وذلك يقتضي أن المنع عنده في هاتين الصورتين منع تحريم. وظاهر كلام من لم يخص هذه المسألة بالذكر كالشيخ وغيره الجواز، انتهى، قلت: هذا هو الصواب مع الكراهة.”[26]
ولا يجوز الاستئجار على حمل الميتة والخمر في المذهب، وإن كانت هناك رواية بالصحة وكراهة أكل الأجرة، ففي المبدع في شرح المقنع: “ولا يجوز الاستئجار على حمل الميتة والخمر، وعنه: يصح، ويكره أكل أجرته.”[27]
وفي مشاركة الذمي، جاء في مسائل أحمد وإسحاق بن راهويه: “قلت: يشارك المسلم اليهودي والنصراني؟ قال: إذا كان هو يلي البيع والشراء.”[28] وذلك كما ذكر في غير هذا الموضع حتى لا يرابي الذمي أو يبايع بيعا محرما.
ويتضح من ذلك أن المذهب هو خطابهم بفروع الشريعة وعدم جواز إعانتهم على شيء من المحرمات أو إجارة النفس لهم في عمل محرم أو بيع محرم لهم أو ما يتوصل به إليه، أو إجارة ما يعينهم عليه، وإن كان الخلاف قد وقع في أكثر هذه المسائل كما بينا.
الفريق الثاني: لا، الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة
والقائلون بهذا هم جمهور الحنفية، وقد وقع كما بينا الخلاف في جميع المذاهب، وقال بهذا القول بعض المالكية والحنابلة، بل والشافعية.
ولتوضيح قول الحنفية، ينبغي البدء ببيان أن الجميع بلا شك متفقون على أنهم مخاطبون بالإيمان، وإنما وقع الخلاف في فروع الشرائع، وقد استثنوا من ذلك أمورًا وافقوا الجمهور في مخاطبتهم بها، وهي:
- “أنهم مخاطبون بالمشروع من العقوبات ولهذا تقام على أهل الذمة عند تقرر أسبابها”[29]
- و “الخطاب بالمعاملات يتناولهم أيضا لأن المطلوب بها معنى دنيوي … فعقد الذمة يقصد به التزام أحكام المسلمين فيما يرجع إلى المعاملات”[30]
- و “في حكم المؤاخذة في الآخرة لأن موجب الأمر اعتقاد اللزوم والأداء وهم ينكرون اللزوم اعتقادا وذلك كفر منهم بمنزلة إنكار التوحيد.”[31]
ولكنها مؤاخذة على عدم الإقرار لا عدم الأداء، وفي أصول السرخسي:
“وهو المراد بقوله تعالى {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة} أي لا يقرون بها.”[32]
فيتبين من ذلك أن الكفار عند جمهور الحنفية غير مخاطبين بالأداء فيما يتعلق بالأوامر والنواهي المختصة بهم.
وأهم أدلتهم:
- أنها لا تجزئهم ولا تصح منهم، فلو كانوا مخاطبين بها لأجزأهم فعلها، ومن المعلوم أن الكافر إذا صلى لا تصح صلاته، وإذا صام لا يصح صومه، وإذا زكى لا تقبل منه زكاته. قال الله تعالى: “وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا” [الفرقان:٢٣] وقال “وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ” [الزمر:٦٥] وقد سبق جواب الجمهور على هذا الاستدلال.
- أن النبي r لما بعث معاذا إلى اليمن قال “فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ…” قال السرخسي: “ففي هذا تنصيص على أن وجوب أداء الشرائع يترتب على الإجابة إلى ما دعوا إليه من أصل الدين.”[33]
- وقال: “والدليل على ذلك من طريق المعنى أن الأمر بأداء العبادة لينال به المؤدي الثواب في الآخرة حكما من الله تعالى (كما وعده في محكم تنزيله، والكافر ليس بأهل لثواب العبادة عقوبة له على كفره حكما من الله تعالى) … وإذا تحقق انعدام الأهلية للكافر فيما هو المطلوب بالأداء يظهر به انعدام الأهلية للأداء وبدون الأهلية لا يثبت وجوب الأداء وبه فارق الخطاب بالإيمان فإنه بالأداء يصير أهلا لما وعد الله المؤمنين.”[34]
- وأجابوا على اعتراض الجمهور بأن عدم المخاطبة تخفيف ولا يكون الكفر سببًا له، فقالوا: “والقول بأن الكافر ليس بأهل للسعي في فكاك نفسه، ما لم يؤمن، لا يكون تخفيفا عليه. وهو نظير أداء بدل الكتابة لما كان ليتوصل به المكاتب إلى فكاك نفسه. فإسقاط المولى هذه المطالبة عنه عند عجزه بالرد في الرق لا يكون تخفيفا عليه، فإن ما بقي فيه من ذل الرق فوق ضرر المطالبة بالأداء … [و] مطالبة الطبيب المريض بشرب الدواء، إذا كان يرجو له الشفاء، يكون نظرا من الطبيب لا إضرارا به. فإذا أيس من شفائه، فترك مطالبته بشرب الدواء، لا يكون ذلك تخفيفا عليه، بل إجبارا له بما هو أشد عليه من ضرر شرب الدواء، وهو ما يذوق من كأس الحمام. فكذلك هنا أن الكفار لا يخاطبون بأداء الشرائع لا يتضمن معنى التخفيف عليهم، بل يكون فيه بيان عظم الوزر والعقوبة فيما هو مصر عليه من الشرك والله أعلم.” [35]
- وذكر السرخسي استدلال البعض بكون المسألة فرعا لأصل مختلف عليه بين الأحناف والجمهور، وهو “أن الشرائع عندهم [الشافعية والجمهور] من نفس الإيمان وهم مخاطبون بالإيمان، فيخاطبون بالشرائع، وعندنا [الحنفية] الشرائع ليست من نفس الإيمان وهم مخاطبون بالإيمان، فلا يخاطبون بالأداء بالشرائع التي تبتنى على الإيمان ما لم يؤمنوا.” ولكنه أجاب على هذا فقال: “وهذا ضعيف أيضا فإنهم مخاطبون بالعقوبات والمعاملات وليس شيء من ذلك من نفس الإيمان أيضا.”[36]
- وأجابوا على أدلة الجمهور من القرآن والسنة بصرفها إلى ذمهم على إنكار وجحود هذه الأوامر والنواهي. وفي تفسير الإمام الماتريدي لقوله تعالى (وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة): “والإشكال: أنه لماذا خص المشرك الذي لم يؤت الزكاة، وينكر الآخرة بالويل، وقد يلحق الويل للمشرك آتى الزكاة أو لم يؤت، آمن بالآخرة أو كفر بها؟ فنقول: قال بعض أهل التأويل: معناه: وويل للمشركين الذين لا يؤمنون بإيتاء الزكاة، ولا يؤمنون بالآخرة، وخصهم بذكر جحود الزكاة والآخرة؛ لما كان سبب كفرهم مختلفا: منهم من كان سبب كفره بخله في المال وشحه، حمله ذلك على إنكار الزكاة والامتناع عن الإيتاء، ومنهم من كان كفره إنكاره جزاء الأعمال، حمله ذلك على إنكار الآخرة، ومنهم من كان سبب كفره الخضوع لمن دونه أو مثله في أمر الدنيا، حمله ذلك على إنكار الرسالة والجحود لها، وغير ذلك من الأسباب التي حملتهم على الكفر والضلالة وهي مختلفة. ويحتمل قوله: (وويل للمشركين. الذين لا يؤتون الزكاة) هو لا على زكاة الأموال، ولكن على زكاة الأنفس؛ كأنه يقول: وويل للمشركين الذين لا يعلمون ولا يسمعون فيما به تزكو أنفسهم ويشرف ذكرها ويصلح أعمالهم به ولا ما يجزون به في الآخرة، أي: ويل لمن لا يعمل ذلك، والله أعلم. وهذان الوجهان جواب عمن تعلق بظاهر هذه الآية على أن الكفار يخاطبون بالشرائع؛ حيث ألحق الوعيد بهم بترك إيتاء الزكاة، والزكاة من الشرائع، والله أعلم.”[37]
لكن الخلاف بين الحنفية والجمهور هنا لم يقتصر على الأصول، بل تعدى إلى الفروع، فإن كنت مستحضرًا لتفريعات الجمهور على القاعدة، فإليك جملا من تفريعات الحنفية.
يقول الإمام الكاساني الحنفي – رحمه الله – في البدائع: “ولو غصب خمرا أو خنزيرا لذمي فهلك في يده يضمن سواء كان الغاصب ذميا أو مسلما غير أن الغاصب إن كان ذميا فعليه في الخمر مثلها، وفي الخنزير قيمته وإن كان مسلما فعليه القيمة فيهما جميعا.”[38]
وتجدهم يجيزون إجارة البيوت لتتخذ في مثل أحوالنا هذه كنائس وحوانيت لبيع الخمر. في حاشية ابن عابدين: “(و) جاز (إجارة بيت بسواد الكوفة) أي قراها (لا بغيرها على الأصح) وأما الأمصار وقرى غير الكوفة فلا يمكنون لظهور شعار الإسلام فيها وخص سواد الكوفة، لأن غالب أهلها أهل الذمة (ليتخذ بيت نار أو كنيسة أو بيعة أو يباع فيه الخمر) وقالا [أي الصاحبان] لا ينبغي ذلك لأنه إعانة على المعصية.” [39]
وتجدهم يجيزون حمل الخمر لذمي ورعي الخنازير وتعمير كنائسهم. في حاشية ابن عابدين: “(و) جاز تعمير كنيسة و (حمل خمر ذمي) بنفسه أو دابته (بأجر)”[40] وفيه: “وعلى هذا الخلاف لو آجره لينقل عليها الخمر أو آجره نفسه ليرعى له الخنازير يطيب له الأجر عنده [أبو حنيفة] وعندهما [الصاحبان] يكره.” [41]
ويوضحون المسألة في الهداية ويجيبون على الاعتراضات بقولهم: “ومن حمل لذمي خمرا فإنه يطيب له الأجر عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: يكره له ذلك”؛ لأنه إعانة على المعصية، وقد صح أن النبي r لعن في الخمر عشرا حاملها والمحمول إليه. وله [أي يستدل لأبي حنيفة] أن المعصية في شربها وهو فعل فاعل مختار، وليس الشرب من ضرورات الحمل ولا يقصد به، والحديث محمول على الحمل المقرون بقصد المعصية.”[42]
والأحناف، كالشافعية ينكرون سد الذرائع في الأصول، ولا يتوسعون فيها في الفروع، ولذلك لا يحرم عندهم بيع العنب لمن يتخذه خمرًا، ولكنهم يفرقون كذلك بين بيعه لمسلم وبيعه لكافر، ففي حاشية ابن عابدين: “(و) جاز (بيع عصير) عنب (ممن) يعلم أنه (يتخذه خمرا) لأن المعصية لا تقوم بعينه، بل بعد تغيره، وقيل يكره لإعانته على المعصية، ونقل المصنف عن السراج والمشكلات أن قوله ممن أي من كافر أما بيعه من المسلم فيكره، ومثله في الجوهرة والباقاني وغيرهما زاد القهستاني، معزيا للخانية، أنه يكره بالاتفاق.” [43]
لكن الأحناف يستثنون ما تقوم المعصية بعينه، ففي الحاشية: “(بخلاف بيع أمرد ممن يلوط به وبيع سلاح من أهل الفتنة) لأن المعصية تقوم بعينه ثم الكراهة في مسألة الأمرد مصرح بها في بيوع الخانية وغيرها واعتمده المصنف على خلاف ما في الزيلعي والعيني وإن أقره المصنف في باب البغاة. قلت: وقدمنا ثمة، معزيا للنهر، أن ما قامت المعصية بعينه يكره بيعه تحريما وإلا فتنزيها.”[44]
وهذا استثناء حسن وضابط للإعانة على الإثم والعدوان عند الحنفية، فهم لا يتوسعون في سد الذرائع، فكل ما كان بين فعل المرء ووقوع المعصية فعل فاعل مختار لا يحرم عندهم إلا أن تقوم المعصية بنفس المبيع أو يكون الفعل الأول إعانة على ما فيه ضرر للغير كبيع أمرد ممن يلوط به وبيع سلاح من أهل الفتنة.
الحقيقة إذًا أن تفريعات الحنفية منشؤها من أصلين عندهم:
- القول بعدم مخاطبة الكفار بفروع الشريعة
- عدم العمل بسد الذرائع، وإن كان الأصوب القول بتضييقهم لنطاق عمل القاعدة التي يقررها المالكية والحنابلة
الفريق الثالث: نعم، الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، لكنه خطاب معاقبة في الآخرة لا خطاب مطالبة في الدنيا
والقائل بهذا الإمام ابن تيمية، وتبعه جماعة. وقد بينا من قبل أن هذا القول لا يختلف كثيرًا عن سائر القائلين بخطابهم، فهؤلاء لا يجبرون الكفار على العبادات، ولكن هذا الفريق يؤكدون على هذا المعنى فيتوسطون بين الفريقين ويجوزون للمسلم بعض ما يجوزه القائلون بعدم خطابهم ويمنعون بعضه.
وأدلتهم على خطابهم هي أدلة الجمهور، وأدلتهم على ما يذهبون إليه من جواز أمور من المعاملة معهم مما لا يجوز مع المسلمين كثيرة، منها:
في الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ ثُمَّ جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ r مِنْهَا حُلَلٌ فَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْهَا حُلَّةً فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتَنِيهَا وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ [اسم البائع] مَا قُلْتَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا فَكَسَاهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا “
فإن قيل إهداؤه إياها لا يعني لبسه لها، لكان هذا في غاية الضعف، قال العراقي في “طرح التثريب”: “.. قد يقال: إهداء الحرير للمسلم لا يلزم منه لبسه له ؛ لما عنده من الوازع الشرعي، بخلاف الكافر فإن كفره يحمله على لبسه فليس عنده من اعتقاد تحريمه ما يكفه عن ذلك؛ فلولا إباحة لبسه له لما أُعين على تلك المعصية بإهدائه له.”[45]
وقد علم أن الكفار كانوا يدخلون مسجده، والجنب لا يجوز له ذلك، ولكنهم لم يمنعوا.
ويستدل لهذا القول، وإلم يستدل به الإمام أبو العباس، بأنه لم ينقل إلينا أن الأزواج والأسياد كانوا يمنعون نساءهم وعبيدهم الطعام في نهار رمضان.
وفي الأموال لأبي عبيد: عن سويد بن غفلة، أن بلالا قال لعمر بن الخطاب: “إن عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج” فقال: “لا تأخذوا منهم، ولكن ولوهم بيعها، وخذوا أنتم من الثمن.”[46] ولو كانوا مسلمين، لما جاز أخذ الزكاة وغيرها من مال حرام.
وكثير من القائلين بالمخاطبة يفرقون في الأحكام.
- يقول الخطيب الشربيني: “(و) لا استئجار مسلمة (حائض) أو نفساء أو مستحاضة إجارة عين (لخدمة مسجد)، وإن أمنت التلويث، وجوزنا العبور لاقتضاء الخدمة المكث أو التردد، وهي ممنوعة منه. أما الكافرة، إذا أمنت التلويث، فالأشبه الصحة كما قاله الأذرعي بناء على الأصح من تمكين الكافر الجنب من المكث بالمسجد؛ لأنها لا تعتقد حرمته.”[47]
- ويقول ابن رشد الجد: “وبيع العنب ممن يعصره خمرا من المسلمين أشد من بيعه من النصارى، إذ قد قيل في النصراني إنه غير مخاطب بشرائع الإسلام إلا بعد الإسلام، فلا يكون على هذا القول المسلم إذا باع عنبه من نصراني معينا على إثم.”[48]
- وفي الشرح الكبير، يقول الإمام ابن أبي عمر – رحمه الله: “(ولا يجوز بيع الأدهان النجسة)… قال شيخنا [الموفق] ويجوز أن يدفع إلى الكافر في فكاك مسلم ويعلم الكافر بنجاسته لأنه ليس ببيع في الحقيقة إنما هو استنقاذ المسلم به.” [49]
- وقد نص أحمد في رواية أبي النضر، فيمن حمل خمرا، أو خنزيرا، أو ميتة لنصراني: “أكره أكل كرائه، ولكن يقضى للحمال بالكراء. وإذا كان لمسلم، فهو أشد كراهة.”[50]
من أجل ذلك يقرر الإمام ابن تيمية جواز بعض المعاملات معهم ولا يقصرها على ثوب الحرير للنص، بل يقيس عليه: “وقال الشيخ تقي الدين: يجوز بيع حرير لكافر ولبسه له؛ لأن عمر بعث بما أعطاه النبي r إلى أخ له مشرك رواه أحمد والبخاري ومسلم. قال شيخنا [تقي الدين]: وعلى قياسه بيع آنية الذهب والفضة للكفار، وإذا جاز بيعها لهم جاز صنعتها لبيعها منهم، وعملها لهم بالأجرة.”[51]
لكنه يمنع من بيع الخمر، بل وبيع العنب لمن يتخذه خمرا منهم، فيقول: “حتى أنه قد نص (يعني الإمام أحمد) أيضا على أنه لا يجوز بيع العنب والعصير والدادي ونحو ذلك ممن يستعين على النبيذ المحرم المختلف فيه، فإن الرجل لا يجوز له أن يعين أحدا على معصية الله، وإن كان المعان لا يعتقدها معصية، كإعانة الكافرين على الخمر.”[52]
بل تجده يشدد فيما قصد به الحرام، يقول ابن مفلح: “ولا يصح بيع ما قصد به الحرام، كعصير لمتخذه خمرا، قطعا، نقل الجماعة: إذا علم، وقيل: أو ظنا، واختاره شيخنا.”[53]
وتجده يبين وجه الجواز عنده أحيانًا ووجه المنع، فيقول: “بيع الحرير للكفار حديث عمر t يقتضي جوازه؛ بخلاف بيع الخمر؛ فإن الحرير ليس حرامًا على الإطلاق، وعلى قياسه بيع آنية الذهب والفضة لهم؛ وإذا جاز بيعها لهم جاز صنعتها لبيعها منهم، وجاز عملها لهم بالأجرة.”[54]
إذًا فالعبرة عنده أن المحرم لذاته كالخمر لا يجوز بيعه له ولا حمله ولا بيع أصل مادته، وإن كانت حلالًا، سدًا للذريعة وقطعًا للمعصية، ولكنه يرخص في مثل ثوب الحرير والذهب للرجال، ومثله ما كان تحريمه لغيره.
الذي يظهر لي هو القول الوسط الذي يمنع من مباشرة المسلم للمحرم، وهذا محل اتفاق، وكذلك تمنع إعانتهم على المحرم لذاته المتفق على تحريمه، إن كانت إعانة مقصودة أو مباشرة. أما ما اختلف فيه وما لا يكون حرامًا بإطلاق والمحرم لغيره، فلا يمنع كل ما أدى إليه من جهة المسلم، وكذلك إن لم تكن الإعانة مقصودة أو مباشرة، فإن التوسع في سد الذرائع يسبب حرجًا بالغًا وعنتًا للمسلمين في ديار الإسلام، فما بالك بغيرها.
وقد كان ضابط الإعانة على الإثم والعدوان محل بحث طويل ومناقشات بين أعضاء ” مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا ” في دورته الخامسة التي انعقدت بالبحرين سنة 1428هـ، وكان خلاصة ما توصلوا إليه أن الإعانة على الإثم والعدوان أربعة أقسام:
1- مباشرة مقصودة كمن أعطى آخر خمرا بنية إعانته على شربها
2-مباشرة غير مقصودة ومنه بيع المحرمات التي ليس لها استعمال مباح إذا لم ينو إعانتهم على استعمالها المحرم
3-مقصودة غير مباشرة كمن اعطى آخر درهما ليشتري به خمرا ومنه القتل بالتسبب
4- غير مباشرة ولا مقصودة كمن باع ما يستعمل في الحلال والحرام ولم ينو إعانة مستعمليه في الحرام ، وكمن أعطى آخر درهما لا ليشتري به خمرا. فإن اشترى به خمرا وشربه، فلا إثم على من أعطاه الدرهم، طالما لم ينو به إعانته على المحرم
ومن هذا القسم الرابع البيع والشراء والإجارة من المشركين وفساق المسلمين والتصدق عليهم بالمال
وقد كان قرار المجمع تحريم الأنواع الثلاثة الأولى وإباحة القسم الرابع وهو ما ليس مباشرا ولا مقصودا.
[1] الموسوعة الفقهية الكويتية (الكويت: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، 1427 هـ)، ج 20، ص 35.
[2] الانتصار للقرآن، محمد بن الطيب الباقلاني، (عمان: دار الفتح – وبيروت: دار ابن حزم(، ج 2، ص 731؛ الفصول في الأصول، أحمد بن علي الجصاص (الكويت: وزارة الأوقاف الكويتية 1994 م)، ج 2، ص 159.
[3] معالم السنن، أبو سليمان الخطابي،(حلب: المطبعة العلمية)، ج 02، ص10.
[4] تمهيد الفصول في الأصول، أبو بكر السرخسي (حيدر آباد: لجنة إحياء المعارف النعمانية)، ج 01، ص 74..
[5] الفصول في الأصول، أحمد بن علي الجصاص (الكويت: وزارة الأوقاف الكويتية)، ج 2، ص 160.
[6] المصدر السابق
[7] المصدر السابق ج 2، ص 159
[8] التوضيح في شرح المختصر الفرعي لابن الحاجب، خليل بن إسحاق، (الدار البيضاء: مركز نجيبويه للمخطوطات وخدمة التراث)، ج 06، ص 252.
[9] مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، الحطاب الرُّعيني، (بيروت: دار الفكر)، ج 05، ص 419.
[10] التبصرة، اللخمي، (قطر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 2011)، ج 10، ص 4966.
[11] التوضيح في شرح المختصر الفرعي لابن الحاجب، خليل بن إسحاق، ج 7، ص 169.
[12] المختصر الفقهي، ابن عرفة (دبي: مؤسسة خلف أحمد الخبتور للأعمال الخيرية)، ج 8، ص 204.
[13] تحفة المحتاج ، ابن حجر الهيتمي ، ج 9، ص 259.
[14] المجموع شرح المهذب، النووي، ج 3، ص 4ـ
[15] وهو قول مرجوح في المذهب عند المتأخرين، ولكن لا يجبرها على غسل الجنابة. وفي التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع (ص374): (وتجبر) مسلمة بالغة (على غسل جنابة، وله إجبار ذمية على غسل حيض) ونفاس وعنه (لا).
[16] تجريد القواعد والفوائد الأصولية، أبو الحسن علاء الدين ابن اللحام البعلي (الكويت: ركائز للنشر والتوزيع)، ص 29.
[17] معونة أولي النهى شرح المنتهى، محمد بن أحمد بن عبد العزيز الفتوحي الحنبلي، الشهير بـابن النجار (مكة المكرمة: مكتبة الأسدي)، ج. 5، ص. 170.
Maʿūnat ʾŪlī al- Nuhá Sharḥ al-Muntahā, Muḥammad ibn Aḥmad ibn ʿAbd al-ʿAzīz al-Futūḥī, Ibn al-Najjār (Mecca: Maktabat al-Asadī), v. 5, p. 170.
[18] كشاف القناع، البهوتي، ج 9، ص 62.
[19] الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان بن أحمد المرداوي (القاهرة: هجر للطباعة)، ج. 14، ص. 316.
[20] الشرح الكبير على متن المقنع، عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، (بيروت: دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع)، ج. 4، ص. 14.
[21] كشاف القناع، البهوتي، ج 7، ص 373.
[22] الفروع وتصحيح الفروع، علاء الدين علي بن سليمان المرداوي (بيروت: مؤسسة الرسالة، و الرياض: دار المؤيد)، ج 4، ص 119.
[23] كشاف القناع، البهوتي، ج 7، ص 313.
[24] كشاف القناع، البهوتي، ج 7، ص 238.
[25] دقائق أولي النهى لشرح المنتهى، منصور بن يونس بن إدريس البُهوتى (بيروت: عالم الكتب)، ج 3، ص 423.
[26] الفروع وتصحيح الفروع، المرداوي، ج 4، ص 119.
[27] المبدع في شرح المقنع، لإبراهيم بن مفلح، (بيروت: دار الكتب العلمية)، ج 4، ص 416.
[28] مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، إسحاق بن منصور الكوسج، (عمادة البحث العلمي، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة)، ج 6، ص 2819.
[29] تمهيد الفصول في الأصول، أبو بكر السرخسي (حيدر آباد: لجنة إحياء المعارف النعمانية)، ج 01، ص 73
[30] المصدر السابق
[31] المصدر السابق
[32] المصدر السابق، ج 01، ص 74
[33] المصدر السابق، ج 01، ص 76
[34] المصدر السابق، ج 01، ص 76
[35] المصدر السابق، ج 01، ص 78
[36] المصدر السابق، ج 01، ص 75
[37] تأويلات أهل السنة، أبو منصور الماتريدي، (بيروت: دار الكتب العلمية)، ج 9، 60
[38] بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاساني، (بيروت: دار الكتب العلمية)، ج 7، ص 147.
[39] حاشية رد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين (القاهرة: مكتبة مصطفى البابي الحلبي)، ج 6، ص 392.
[40] المصدر السابق، ج 6، ص 391.
[41] المصدر السابق
[42] الهداية في شرح بداية المبتدي، لعلي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني (بيروت: دار إحياء التراث العربي)، ج 4، ص 378.
[43] حاشية رد المحتار، لابن عابدين، ج 6، ص 391.
[44] المصدر السابق
[45] طرح التثريب في شرح التقريب، لزين الدين العراقي (بيروت: دار إحياء التراث العربي)، ج 3، ص 237.
[46] كتاب الأموال، لأبو عُبيد القاسم بن سلاّم بن عبد الله الهروي البغدادي (بيروت: دار الفكر)، ص 62.
[47] مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، للخطيب الشربيني (بيروت: دار الكتب العلمية)، ج 3، ص 449.
[48] البيان والتحصيل، لأبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي (بيروت: دار الغرب الإسلامي)، ج 18، ص 614.
[49] الشرح الكبير على متن المقنع، ابن أبي عمر ، ج. 4، ص. 14.
[50] تقريب فتاوى ورسائل شيخ الإسلام ابن تيمية، أحمد بن ناصر الطيار (الرياض: دار ابن الجوزي)، ج 4، ص 164.
[51] المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام، تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، جمعه وطبعه محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، ج 3، ص 73
[52] الفتاوى الكبرى لابن تيمية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، (بيروت: دار الكتب العلمية)، ج 3، ص 368.
[53] الفروع وتصحيح الفروع، المرداوي، ج 6، ص 169.
[54] المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام، ج 4، ص 5