هل الأحكام تختلف باختلاف الدار؟ هذه مسألة عظيمة، ونحن نحتاج إلى التعرض لها هنا، وإن كنا عاجزين عن استيفاء بحثها. لكن، نقول إن بعض أحكام الإسلام لا تجري خارج ديار الإسلام اتفاقًا للعجز عن إقامتها، ولأن سلطان القضاء الإسلامي لا يمتد إليها. لكن، هل تختلف بعض أحكام المعاملات في حق آحاد المسلمين؟ هذه من مسائل الخلاف، والجمهور على عدم اختلافها، وقال الحنفية تختلف أحيانًا، فجوزوا العقود الفاسدة فيها.
وأهم أدلة الحنفية:
- مرسل مكحول عن رسول الله r أنه قال: ”لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.” هكذا جاء في مبسوط السرخسي،[1] وفي الأم: “لَا رِبَا بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ.”[2] يقول ابن المنذر: ”واختلفوا في بيع الدرهم بالدرهمين من أهل الحرب، فقالت طائفة: لا يجوز ذلك، هذا قول الأوزاعي، والشافعي، وإسحاق بن راهويه، ويعقوب، وقال يعقوب: وإنما أحل أبو حنيفة هذا؛ لأن بعض المشيخة حدثنا عن مكحول، عن رسول الله r أنه قال: “لَا رِبَا بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ.” وكره أحمد بن حنبل ذلك. قال أبو بكر: وكما قال الأوزاعي، والشافعي أقول؛ لأن النبي r وضع ربا الجاهلية، ونهى عن الربا نهيا عاما.” [3] وقال ابن قدامة في المغني: “وخبرهم مرسل لا تعرف صحته، ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك.”[4]
- واستدلوا بقصة مراهنة أبي بكر للمشركين. في المبسوط: “قال محمد: وبلغنا أن أبا بكر الصديق t قبل الهجرة حين أنزل الله تعالى {الم غلبت الروم} [الروم:1- 2] قال له مشركو قريش: … هل لك أن تخاطرنا على أن نضع بيننا وبينك خطرا، فإن غلبت الروم أخذت خطرنا، وإن غلبت فارس أخذنا خطرك فخاطرهم أبو بكر t على ذلك، ثم أتى النبي r وأخبره فقال: “اذْهَبْ إلَيْهِمْ فَزِدْ فِي الْخَطَرِ، وأبْعِد في الأجَلِ،” ففعل أبو بكر t وظهرت الروم على فارس، فبعث إلى أبي بكر أن تعال فخذ خطرك، فذهب، وأخذه فأتى النبي r به فأمره بأكله، وهذا القمار لا يحل بين أهل الإسلام، وقد أجازه رسول الله r بين أبي بكر t، وهو مسلم، وبين مشركي قريش؛ لأنه كان بمكة في دار الشرك، حيث لا يجري أحكام المسلمين.”[5]
- واستدلوا بأن “رَسُولَ اللَّهِ r صَارَعَ رُكَانَةَ عَلَى شِيَاهٍ”، وقد روى أصل هذه القصة أبو داود والترمذي من حديث أبي الحسن العسقلاني، وليس فيها ذكر الشياه، قال الترمذي: غريب، وليس إسناده بالقائم. وذكرت قصة الشياه في مراسيل أبي داود وغيره عن سعيد بن جبير وعند غيره عن ابن عباس وأبي أمامة. وضعف أسانيد هذه الروايات الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير، فليراجع.[6]
وللمعارض أن يقول إن ما ذكر من محرمات أبيحت في مكة في القصتين السابقتين مما وقع الخلاف في تحريمه، والقول بحلها (سيما السبق في حديث ركانة) هو قول جماعة من أهل العلم، ومع التسليم بالتحريم، فالجزم بسبقه عليهما مما يتعذر.
واستدلوا بما ذكر عن ابن عباس t وغيره أن رسول الله r قال في خطبته: “كُلُّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا يُوضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ”، قالوا: “وهذا؛ لأن العباس t بعد ما أسلم رجع إلى مكة، وكان يربي، وكان لا يخفى فعله عن رسول الله r فلما لم ينهه عنه دل أن ذلك جائز، وإنما جعل الموضوع من ذلك ما لم يقبض حتى جاء الفتح، وبه نقول، وفيه نزل قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}.”[7]
وفي استدلالهم نظر لأن العباس t كان له ربا قبل إسلامه، فيحتمل أن يكون هذا هو الموضوع، وإن كان احتمالًا ضعيفًا، لكنه قد يصلح ليسقط الاستدلال.
وفي الجواب على أدلتهم يقول ابن قدامة: “ولنا، قول الله تعالى: “{وحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] … وقوله “مَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى” عام، وكذلك سائر الأحاديث. ولأن ما كان محرما في دار الإسلام كان محرما في دار الحرب، كالربا بين المسلمين، وخبرهم مرسل لا نعرف صحته، ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك، ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن، وتظاهرت به السنة، وانعقد الإجماع على تحريمه، بخبر مجهول، لم يرد في صحيح، ولا مسند، ولا كتاب موثوق به، وهو مع ذلك مرسل محتمل. ويحتمل أن المراد بقوله “لا ربا” النهي عن الربا، كقوله: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] ، وما ذكروه من الإباحة منتقض بالحربي إذا دخل دار الإسلام، فإن ماله مباح، إلا فيما حظره الأمان.”[8]
ويجاب عليهم من قبل البعض بقول الله عن استحلال بعض اليهود للربا مع غير اليهودي: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 75] وقد يجاب عن السادة الأحناف بأنهم منعوا الربا مع الذمي، وإنما أجازوه مع الحربي لكونه من أهل الحرب، لا لاختلاف دينه. وقد يجاب عن هذا الجواب بكون المسلم مستأمنًا عندهم، فعصمت بذلك أموالهم، وجواب الحنفية على ذلك بأن هذه العصمة تمنعه من أخذها غصبًا أو غدرًا، فإن أخذها بطيب نفس منهم، فلا محذور.
ولا شك أن هذا الأصل الذي اعتمده الحنفية قد فرعوا عليه كثيرًا، في المبسوط: “وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان … وإن بايعهم المستأمن إليهم الدرهم بالدرهمين نقدا أو نسيئة أو بايعهم في الخمر، والخنزير، والميتة فلا بأس بذلك في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى، ولا يجوز شيء من ذلك في قول أبي يوسف رحمه الله؛ لأن المسلم ملتزم أحكام الإسلام حيثما يكون، ومن حكم – الإسلام حرمة هذا النوع من المعاملة، ألا ترى أنه لو فعله مع المستأمنين منهم في دارنا لم يجز فكذلك في دار الحرب، وهما يقولان هذا أخذ مال الكافر بطيبة نفسه، ومعنى هذا أن أموالهم على أصل الإباحة إلا أنه ضمن أن لا يخونهم فهو يسترضيهم بهذه الأسباب للتحرز عن الغدر ثم يأخذ أموالهم بأصل الإباحة لا باعتبار العقد، وبه فارق المستأمنين في دارنا؛ لأن أموالهم صارت معصومة بعقد الأمان فلا يمكنه أخذها بحكم الإباحة، والأخذ بهذه العقود الباطلة حرام.”[9]
ولا شك عندي من بنائهم لهذه الأحكام، أنها، إن صحت في دار الحرب في زمانهم الذي ساغت فيه القسمة الثنائية، وهي لا تصح عندي لتمسكي بقول الجمهور، فلا تصح في أحوالنا هذه، فإن البلاد الموقعة على ميثاق الأمم المتحدة لا بد أن يكون لها تكييف آخر، وإن المسلمين في هذه البلاد قد استوطنوها، ولهم من الحقوق فيها ما لسائر مواطنيها، وقد دخلوا في عقدها الاجتماعي، فمن يقرأ عبارة الإمام السرخسي السابقة، سيعسر عليه سحبها على أحوالنا. وأنقل هنا عن الشيخ صلاح الصاوي كلامًا بليغًا في التحذير من مآلات هذا المنحى. يقول – حفظه الله تعالى – في مقال له بعنوان هل تجوزُ العقود الفاسدة في المجتمع غير المسلم:
“ومن ذلك أيضًا ما يتضمنه مذهبهم من جواز تعامل المسلمين الجدد في هذه البلاد بالربا أخذًا وإعطاءً ما داموا لم يهاجروا، سواء أكان ذلك مع نظرائهم من المسلمين الجدد أم مع بقية الحربيين؛ وذلك لارتباط العصمة عندهم بالدار ابتداء، وقد أشار إلى ذلك ابن عابدين في الحاشية في قوله: “يعلم مما ذكره المصنف مع تعليله، أن من أسلما ثمة ولم يهاجرا لا يتحقق الربا بينهما أيضًا.” ولا يخفى أن الهجرة لا سبيل إليها في هذه الأيام في الأعم الأغلب، فيتدينون طيلة حياتهم بدين لا أثر فيه لحرمة الربا.
… كيف يتأتى القيام بواجب البلاغ في هذه المجتمعات مع تبني هذا المذهب؟ لا يخفى أن للمسلم المغترب خارج ديار الإسلام رسالة سامية تتمثل في حفظ الإسلام على أهله ودعوة غير المسلمين إلى الإسلام، وحِفظُ الإسلام على أهله يقتضي دعوتهم إلى الاستقامة على هدي الكتاب والسنة، واجتناب ما خالفهما من أهواء البشر … كما أن دعوة غير المسلمين إلى الإسلام تكون بلسان الحال كما تكون بلسان المقال … فكيف يتأتى دعوة غير المسلمين إلى الإسلام أو حتى تعريفهم به في ظل جالية يتملَّك المسلمون فيها محلات لبيع الخمور والخنزير ويسهمون في إشاعتها في هذه المجتمعات، ثم يقولون للناس: إننا أتباع دين يُحِلُّ لأتباعه الطيبات ويحرِّم عليهم الخبائث … أيًّا كانت المرتكزات الفقهية لهذا الترخُّص، وأيًّا كان حظ القائمين عليه من النظر؟
إن حديث فقهائنا من السادة الأحناف أو من غيرهم عن دار الحرب وعن جواز التعامل فيها بالعقود الفاسدة يجب أن يُؤخَذ في سياقاته الاجتماعية والسياسية والتاريخية، فلم يكن أهلُ الإسلام فيما مضى يتوطنون دار الحرب بصورة دائمة، وينشئون فيها مراكزهم ومؤسساتهم الإسلامية … وفي إطار هذه النظرة تغيَّر موقف فقهائنا من قضية التجنُّس، فلم تعد تحمل ما كانت تحمله من دلالات أدت ببعض أهل الفتوى إلى القول برِدَّة المتجنس عن الإسلام في وقت من الأوقات !
… إن فتح هذا الباب سيفتح بابًا واسعًا عريضًا إلى خلع الرِّبقة والتفلُّت من التكاليف … وقد يتدرج الناسُ من استباحة العقود الفاسدة في باب الأموال إلى استباحتها في باب الأبضاع! … وإذا أبيح الأمر أبيحت الوسائل المفضية إليه، فإذا جاز بيع الخمر ولحم الخنزير جاز السعي إلى تملُّكها لبيعها، فلا حرج على المسلم أن يتملك مزرعة لتربية الخنزير أو مصنعًا لإنتاج الخمور … ومن ثَمَّ فلا أحسب عالمًا منصفًا يقر مثل هذا المسلك الفقهي في ظل كل هذه المتغيرات في واقعنا المعاصر مهما كان حظ هذا المذهب من النظر!”
الخلاصة هو أن مسألة الدار مسألة عظيمة، ولكبار العلماء المعاصرين بحوث مطولة فيها، وسواء تمسكت بالتقسيم الثنائي أو قبلت غيره، فلا شك أن الواقع قد اختلف، ومن الجناية على العلم والدين النقل من الكتب من غير اعتبار لتغير الأحوال، وما يصاحبها من تغير في تحقيق المناطات.
فإن استقر الأمر على أن الدار لا تجعل الحرام حلالًا، فهل هناك أي أثر للدار؟ نعم، فكما قدمنا، فإنها لا يمتد إليها سلطان القضاء الإسلامي، ويقر غير المسلم فيها على ما لا يقر عليه في دار الإسلام، وفي نهاية المطلب: “ولو وقع الشرط على أن تكون رقاب الأبنية في البلدة وعرصاتها لهم، فلا يمنعون من ضرب النواقيس، وإظهار الخمور والخنازير في مثل هذه البلدة؛ فإنها بحكمهم، ولو كان يخالطهم المسلمون، لم يكن لهم أن يعترضوا عليهم، والبلدة في الجملة والتفصيل بمثابة دار الذمي في بلاد الإسلام، ولا يخفى أنه لا يجب البحث -بل لا يجوز- عما يتعاطَوْن في دورهم … وقد فُتحت قرى الشام صلحاً على أن تكون لأهلها، فكانوا يظهرون النواقيس في زمن معاوية وجرت له قصة مشهورة.”[10]
ومن ثم فقد فرق الحنفية بين بيع دار لتكون كنيسة في سواد الكوفة وفي غيرها، للفرق بين البلاد التي ظهر فيها شعار الإسلام وغيرها، فما كان لآحاد المسلمين أن يخرجوا على مقتضى العقود التي أمضاها ولاة أمورهم.
وهناك فروق في تحقيق المناطات في واقع مغاير جدًا لواقع ديار الإسلام. يقول ابن الملقن: “وكره العلماء أن يؤاجر الرجل المسلم نفسه من مشرك في دار الحرب أو دار الإسلام، وقد أسلفت أنه حرام؛ لأن في ذلك ذلة وصغار إلا أن تدعو إلى ذلك ضرورة، فلا نحرمه، فيما لا يعود على المسلم بضر ولا فيما لا يحل مثل عصير خمر ورعي خنزير، أو عمل سلاح أو شبه ذلك. وأما في دار الإسلام فقد أغنى الله بالمسلمين وبخدمتهم عن الاضطرار إلى خدمة المشركين.”[11]
قال ابن القيم: “فَصْلٌ في تغير الفتوى واختلافها بحسَب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد.” [12]
لا شك إذًا أن تغير المكان وما يتبعه من تغير الأحوال والعوائد لا بد أن يؤثر على الفتوى، كما استقرت عليه كلمة المحققين من العلماء، وما إسقاط الحدود في دار الحرب إلا من هذا الباب، ومنه ما ذكره الإمام ابن تيمية من عدم مخالفة الكفار في الهدي الظاهر في دارهم، قال – رحمه الله -: “ومثل ذلك اليوم: لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لما عليه من الضرر، بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية.”[13] ويبقى تقدير الضرر والمنفعة متروكًا للمجتهدين في تحقيق المناطات.
[1] المبسوط، السرخسي، ج 14، ص 56؛
[2] الأم، محمد بن إدريس الشافعي، (دار الفكر، بيروت)، ج 7، ص 379.
[3] الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف لأبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر، (الرياض: دار طيبة)، ج 11، ص 236.
[4] المغني لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، (دار عالم الكتب، الرياض)، ج 6، ص 99.
[5] المبسوط، السرخسي، ج 14، ص 57؛
[6] التلخيص الحبير، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني، (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى)، ج 4، ص 397.
[7] المبسوط، السرخسي، ج 14، ص 57؛
[8] المغني لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، (دار عالم الكتب، الرياض)، ج 6، ص 99.
[9] المبسوط، السرخسي، ج 10، ص 95
[10] نهاية المطلب في دراية المذهب لعبد الملك بن عبد الله الجويني، (دار المنهاج)، ج 18، ص 51.
[11] التوضيح لشرح الجامع الصحيح لسراج الدين أبو حفص عمر بن علي، ابن الملقن، (دمشق: دار النوادر)، ج 15، ص 74.
[12] إعلام الموقعين عن رب العالمين لمحمد بن أبي بكر بن أيوب، ابن القيم، (الرياض: دار ابن الجوزي)، ج 4، ص 337.
[13] اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لتقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، (بيروت: دار عالم الكتب)، ج 1، ص 53.