هناك محاسن يدعو إليها الفكر الليبرالي، ولا مجال لإنكارها، فالحرية معنى تتوق إليه نفوس الناس، وحقوق الإنسان وحفظ كرامته وتمكينه من الإبداع والارتقاء بذاته ومجتمعه، كل هذه معان لا يختلف في حسنها العقلاء، ولكن الخلاف إنما هو في المقصود بهذه المعاني الجميلة، وحَدِّها، وطرق تطبيقها، ووسائل إدراكها وتحقيقها في الواقع، والأهم من ذلك الأصل المعرفي الذي تقوم عليه.
إن الأصل المعرفي لليبرالية هو إنكار أية مرجعية خارج الإطار الإنساني، وسياقها الحضاري جعلها تولد عدوة للدين “المنظم” بنفس قدر عداوتها للملكية والإقطاع وغيرها من المؤسسات التي مارست القهر على الإنسان الأوروبي في العصور الوسطى. وليس فصل هذه المصطلحات عن أصولها التاريخية وسياقاتها الحضارية، وما دخل في أصل تركيبها من شوبات عقدية مغايرة بل مصادمة لمعتقداتنا، بالأمر الممكن، ولكن الممكن هو تفكيك مدلولات المصطلح والتعامل مع أفرادها.
ومع هذه المحاسن المذكورة، فإن هناك مشكلات وجودية في الفكر الليبرالي، تجعله يحطم بعضه بعضًا ويوقع أصحابه في التناقض. إن الآلية المعلنة لأصحاب التوجه الليبرالي لتنفيذ أجنداتهم هي الحكم الديمقراطي، ولكن هذا الحكم قد يأتي بأغلبية لا تريد الليبرالية، وساعتها يذهب الليبراليون كل مذهب في الطعن في صحة الممارسة الديمقراطية مهما كان الالتزام بآلياتها، بل يغيرون معنى الديمقراطية في اللغة والاصطلاح والسياق التاريخي لنشأتها حتى تتماهى مع أفكارهم أو لا تكون ديمقراطية حقيقية. والليبرالية ترفع من قدر الإنسان، ولكن إن أدار لها أكثر الناس ظهورهم، تعالت عليهم ونظر أباطرتها إليهم كالعجماوات التي ينبغي أن تساق إلى موارد الماء والكلأ. والليبرالية ليس لها مرتكز، بل لا يستقيم أن يكون لها كتاب، لأنها في تعريفات أصحابها، متجددة ومتمردة ولا سقف لها، وهي بذلك تمهد المجتمع للانزلاق في كل طريق، ولولا أن المرجعية في الغرب لم تصف لها، بل تنازعها المسيحية، وأحيانًا الاشتراكية، لرأيت اليوم في الغرب عجبًا (فوق ما هو كائن).
هذا بالنسبة إلى الليبرالية عمومًا، ولكن مشكلة الليبراليين المسلمين أعقد وأمنع من الحل، فهم – فرج الله كروبهم – في أزمة فكرية مستعصية، فمنهم مسلمون ظاهرًا وباطنًا ومحبون لله ورسوله، ولكنهم ممزقون بين اعتقادهم الديني وولائهم الحضاري وفكرهم الليبرالي، أرواحهم تستوحش عقولهم – نسأل الله أن يجمع شتاتهم. السبب فيما سبق هو أن الإسلام يفيض في روحه ونصه ومعناه ومبناه بالرفض لفصل سلطان الله الخالق (أو ما يسمونه خطأ بسلطان السماء) عن حركة العباد المخلوقين، وإن كانت في غير العبادة، كعمارة الأرض وأحكام المعاملات … إلخ. أيمكن أن يلتقي الضدان؟ إن الليبرالية في أصلها المعرفي تجعل الإنسان سيد الكون، بينما سيد الكون في الإسلام هو الله ، والإنسان عبد لله وحده وسيد لكل شيء بعده، كما قال محمد عبده – رحمه الله.
إن الليبراليين في الغرب لا يقعون في معشار ما يقع فيه ليبراليو المسلمين من التناقض، فأولئك لا يفصلون بين المقدمات ونتائجها بالقدر الذي يفعله أصحابنا، فهم يقرون مثلا أن مشاهد العري تؤدي إلى الإثارة الجنسية، وتلك تؤدي إلى ممارسة الجنس خارج إطار الأسرة، قبل الزواج أو معه. القوم يقرون بذلك، ولكن لهم توجيهات أخرى تجعلهم لا يرون في ذلك كله إشكالاً. أما الليبراليون المسلمون فهم يريدون الدفاع عن تلك “الحريات” ولكنهم يستبشعون نتائجها، فإن ذكروا بها رفضوا أن تكون تلك النتائج من هاتيك المقدمات. وهم يعظمون بعض الشيوخ لأنهم وافقوهم في بعض مقولة لهم، ولكنهم يردون عليهم باقي مقالاتهم، فيأخذون منهم ما يشتهون ويتركون تسعة أعشار ما يقولون، ويتمسكون بما لم يقل به أحد ممن عرف بالعلم، فيتناقضون. ولعل الأزهر الذي عاداه أسلافهم ينال من بعض معاصريهم شيئًا من التقدير لأنهم يدفعون به في نحور من جاوزه في الخطاب الإسلامي الصحوي، ولكنهم لن يقبلوا أبدًا به كمرجعية حاكمة، فهو عندهم كمطية يصلون بها إلى غاية لينزلوا عنها فيواصوا السير إلى ما بعدها. ولعل بعضهم أحيانًا يذكرني بحال أهل الأهواء، الذين إن قلت لأحدهم، لم تترك الصلاة، يقول أنا حر، ثم إن قلت له، لم تدمن الخمر، يقول أمر الله، فهو كما قال ابن تيمية – رحمه الله – قدري في ترك الطاعة جبري في فعل المعصية.
أما سبيل الرشاد وطريق الفلاح لهؤلاء الليبراليين من المسلمين فهو أن يدخلوا في السلم كافة، فيقروا ظاهرًا وباطنًا، وقولاً وعملا بسقف المرجعية الإسلامية. إننا لن نكون عندها قد سعدنا بإضافة زخم كمي جديد إلى مجموع الإسلاميين، بل سيكون لدخول هؤلاء في صفوفهم أثر نوعي على النهضة الإسلامية وإعادة صياغة الوعي الجمعي للأمة. لن يكون هذا أبدًا انسحاقًا لهم، بل إنه كما أفادت الصحوة الإسلامية من مفكري اليسار وناشطيه الذين انضموا إليها في الستينات والسبعينات، فإنها ستفيد من الليبراليين كذلك، فعندهم ما يقدمونه، وتلك المحاسن التي صدرت المقال بالحديث عنها هم أقدر الناس على الدلالة على مواطنها في تعاليم الإسلام وتبريزها، لأنه لا يستوي من يبحث عما يعرف وما هو حريص على وجدانه وإدراكه، ومن يبحث عما لا يعرف، أو ليس بنفس الحرص على طلبه، ولا شك أن كثيرًا من الإسلاميين لا يقدر لتلك المحاسن قدرها. إن الفكر الإسلامي ومجمل الخطاب إنما هو ثمرة – في غير القطعيات – لتفاعل النص مع العقل، والعقول تتفاوت في مداركها ومشاربها. إن هذه ليست دعوة لتغيير الإسلام، ولكنها دعوة إلى الاستفادة بخبرات بعض المسلمين في تشكيل وصياغة خطاب جديد لا يعارض أية ثوابت، ولكن يراعي تغير الواقع والحاجة إلى صياغة خطاب متكامل في كل المجالات نخرج به إلى الناس حتى نحقق معنى الشهود الحضاري للأمة الوسط.
عندها سينتصرون وننتصر ويسعدون بجمع شتات نفوسهم ونسعد بأن رد الله إلينا إخواننا… فاللهم اهد قلوبهم.
د. حاتم الحاج