أعود بهذا المقال إلى سلسلة المقالات التي بدأتها بعد ثورة الشعب المصري المباركة عن التحديات التي ستواجه العمل الإسلامي في الواقع الجديد الذي فرضته تلك الثورة. وأحب أن أذكر هنا ثانية بأن استعمال لفظ التحديات لا يقصد منه التنفير من الواقع الجديد ولا الحنين إلى القديم، ولكن التنبيه إلى أن كل واقع يفرض حزمة مختلفة من التحديات والفرص. والكيس من يتقن قراءة الواقع واستشراف المستقبل، ليحسن التعاطي معهما باغتنام الفرص والمواجهة المبكرة والعاقلة للتحديات.
في المقالات السابقة تكلمت عن تحديات الحرية والانفتاح، وفي هذا المقال أعرض إلى تحد آخر، وهو تحدي السراء! أما علامة التعجب بعد كلمة السراء فهي تعبير عن تقديري لتعجب بعض الناس من اعتبار السراء تحديًا، لا أن الأمر في ذاته يستحق العجب. والسراء أقصد بها هنا الغنى والرخاء. فكيف يكون ذلك تحديًا؟ إنه يكون كذلك باعتبار الغاية الأسمى لذوي المرجعية الإسلامية، وكذلك لكل حكيم ينشد خير الإنسانية. إن المال الذي سماه الله في كتابه خيرًا إنما هو خير باعتبار معين وفي أحوال معينة، وليس خيرًا مطلقًا، ولا هو مطلق الخير. والحكماء يدركون ذلك، فهم يعرفون أن سعادة البشر لا تقاس بحجم ثرواتهم، وأن العلاقة بين الغنى والحياة الطيبة ليست طردية محضة، بل نبه ابن خلدون – رحمه الله – في مقدمته إلى اقتران نهاية العمران ببداية الخراب. أما أصحاب المرجعية الإسلامية، فينبغي أن يكونوا أعظم الناس إدراكًا لهذه الحقيقة، فليس الغنى والفقر إلا نوعين من الابتلاءات التي يقلب الله فيها عباده ليعلم الذين صبروا ويمحص المؤمنين، والعبرة بتصرف العبد في الحالين.
إن الغنى قد يكون لكثير من الناس مجبنة ومحزنة، إذ يخشى صاحبه من ضياع ما عنده، وهو كذلك ملهاة في طلبه وإنفاقه، مما يستدعي أن يكون في الدعوة من الجذب والترغيب ما يفوق ذلك، حتى يؤثر صاحب المال الإتيان إلى صلاة العشاء مثلًا على كل لهو حرام أو مباح. إن ابتلاء السراء يكون أحيانًا أشد على العباد من ابتلاء الضراء، فقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ.” [رواه الشيخان عن عمرو بن عوف] وقال عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه -: “ابْتُلِينَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا، ثُمَّ ابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ بَعْدَهُ فَلَمْ نَصْبِرْ.” [رواه الترمذي]
ولكن مع ما سبق، فإن ساحة العافية أوسع للعباد، وقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أَيُّهَا النَّاسُ، سَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ (ثَلاثَ مَرَّاتٍ)، فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ مِثْلَ الْعَافِيَةِ بَعْدَ يَقِينٍ” [رواه أبو نعيم في الحلية وغيره عن أبي بكر]، وقال: “نِعْمَ المالُ الصّالِحُ للرَّجُلِ الصَّالح” [رواه أبو داود عن عمرو بن العاص] والإسلام يحض إلى طلب الحسنى في الدارين معا ويعد بالحياة الطيبة فيهما معا. قال تعالى: “وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ” [البقرة: 201] وقال: “منْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” [النحل: 97] وهو كذلك لا يعد الفقر فضيلة، وإن كان للصبر عليه فضيلة وأجر الصابرين.
لقد ذكرت في أولى مقالاتي تفاؤلي بمستقبل بلادي الاقتصادي ورفاهة أهلها، ولعل البعض يرى غير ذلك، سيما مع ضيق الأحوال في هذه اللحظة، بل وذهابنا لطلب قرض من صندوق النقد. لكنني أكاد أجزم بأن فضل الله أقرب إلينا مما نظن.
وإليك بعض التأملات فيما يجب عمله عندما يغمرنا فضله تعالى:
الانتباه إلى خطر التفاوت الطبقي، فإن الغنى لن يحصل لنا جميعًا دفعة واحدة، بل ستكون هناك مراحل تتسع فيها الفجوة بين الطبقات (أو تبقى واسعة)، وهذه تحتاج من الدعاة التوجه إلى الأغنياء بالنصح ليعرفوا حق الفقراء في مال الله الذي بأيديهم ويجتنبوا استفزاز مشاعرهم، وإلى الدولة ليكون همها الأكبر تحصيل الضروريات للمجتمع بأسره ثم الحاجيات ثم التحسينيات، فعلى هذا الأساس ينبغي أن توضع السياسات. ثم ينبغي أن يتوجه الدعاة إلى الفقراء بخطاب يحميهم من شر الحسد فإن أصحابه هم أول ضحاياه. كما ينبغي لهم شحذ هممهم إلى طلب المعالي، والتي ينبغي أن يكون إدراكها في دولة العدل والرحمة في مقدور الجميع من المجتهدين النابهين.
العناية بالأئمة والدعاة ورفع مستواهم المادي والمعيشي، وذلك ليكونوا أقدر على مخاطبة الأغنياء وأزهد فيما في أيديهم من فضل الله، فيقف منهم الأغنياء موقف المتعلم من المعلم لا موقف المعطي من الآخذ. وكذلك حتى لا يزهد النابهون من الشباب في سلوك طريق طلب العلم والعمل كدعاة وأئمة مساجد، فإن هذه الوظائف لا ينبغي بحال أن تكون أقل قدرًا في حس المجتمع من الطبابة والهندسة والسياسة وغيرها. ولعل هذه الأغراض الصالحة هي ما جعلت مالكًا – رحمه الله – يعتني بكمال هيئته وحسن بزته، فلا نظنه إلا قد جمع الله له بين وجاهة الدنيا والآخرة.
إيجاد البدائل للهو المحرم، فنفس ابن آدم لا تشبع، والأغنياء الذين قضوا وطرهم من الضروريات والحاجيات سيطلبون التحسينيات من اللعب واللهو والزينة. والإسلام لم يذم شيئًا من ذلك إلا أن يكون بمحرم أو يتجاوز الحد المعقول إلى السرف أو يلهي عن الواجبات ويصرف عن التزود من الباقيات الصالحات. ومن ذلك اللهو المباح مثلًا سياحة الفنادق العائمة، فسيكون هناك إن شاء الله من يتطلع إلى مثل ذلك، ولكن يحول بين الصالحين منهم وبينه حال تلك الأماكن من الاختلاط الفاحش والمنكرات الأخرى. فمتى تم توجيه بعض المستثمرين إلى توفير سبل الاستجمام لهم من غير تفريط في مبادئهم، فيرجى أن يدرك هؤلاء المستثمرون ثوابي الدنيا والآخرة إن هم أحسنوا النية. ومن ذلك أيضًا إقامة المعارض الفنية الخالية من المنكرات، فإن التدين لا يعني فقد الإحساس بالجمال وتقديره، فالله جميل يحب الجمال، ومما امتن به سبحانه على عباده في خلق الدواب جمالها، مع ما فيها من الفوائد الأخرى العظيمة، فقال: “وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ” [النحل: 16]
ينبغي الانتفاع بأجواء الرخاء في فعل الخير ونشر العلم ودعوة الناس. وينبغي إحياء شعيرة الوقف التي نفع الله بها أمتنا قرونًا، فكان ينفق من تلك الأوقاف على سائر المصالح الدينية والدنيوية، ولكنها كادت تندثر في العصر الحديث، سيما في الدول الفقيرة أو تلك الفاسدة التي لا يملك الثروة فيها غالبًا إلا الفاسدون وأصحاب النفوس الصغيرة. كما ينبغي تكوين جمعيات خيرية تعنى بالتواصل مع العالم الخارجي وذلك للاستفادة من تجاربهم ولدعوتهم إلى الخير. إن قارة كإفريقيا ما زالت تنتظر الكثير من جهود الدعاة والمصلحين. على سبيل المثال، فإن بناء جامعة في مصر لأبنائها (أو تخصيص أماكن أكثر لهم في جامعاتها) سيكون له أثر عظيم على مكانة مصر بها وولاء أهلها لها، وسيكون الدعاة في أفضل وضع لهداية غير المسلمين من هؤلاء إلى الإسلام وهداية المسلمين منهم إلى السنة. إن الله جعل المال قيامًا لنا، وهو كذلك في العمل الدعوي، فإنه وإلم يفتقر إلى المال في كل صوره، لكنه يعتمد في كثير منها عليه، فبه تؤلف القلوب وتقام المدارس والجامعات والمساجد والمستشفيات ومراكز الشباب والمؤسسات الإغاثية والمواقع الإلكترونية والقنوات الفضائية وبه تنشر الكتب وتقام الدورات العلمية والأنشطة الترفيهية.
إن القول بجواز أخذ الأجرة على تعليم العلم وإقراء القرآن لمما اتفقت عليه كلمة جماهير الفقهاء، سيما بعد رجوع الأحناف إليه، وما كان رجوعهم إلا لما رأوا من ضرورته لحفظ الكتاب. ونحن نحب أن تخصص الدولة من الرواتب لأهل العلم ما يغنيهم عن غيرها، أو تأتي هذه الرواتب من الأوقاف، ولكنها قد لا تكفي، فلزم أن تتغير ثقافة الناس بشأن بذل الأموال لتحصيل العلم الشرعي، والذي لا ينبغي الاقتصار في نشره على القوالب القديمة من حلقات في المساجد بعد الصلوات، ولكن ينبغي – مع الحفاظ على تلك الحلقات – تنويع القوالب لتشمل مثلًا إقامة دورات شرعية، يدفع الناس رسومًا لحضورها، (وقد يكون بعضها على الشبكة). وذلك حتى يتسنى إعدادها على أفضل مستوى ويمكن دعوة النابهين من الدعاة إلى تدريسها، مع بذل ما يعينهم على التفرغ لها ولأمثالها. ومن حسن الإعداد المكان المهيأ للسماع، والمشتمل على غرفة لرعاية الأطفال، حفاظًا على حق المسلمات في تعلم دينهن وتشجيعًا لهن، ومنه استعمال العروض التقديمية والوسائل الإيضاحية، وكذلك تقديم بعض المشروبات والمطعومات إن أمكن.
إن المساجد ينبغي أن تشهد قفزة هائلة في عمارتها وكثرة مرافقها وتنوع مناشطها، ومن أجل أن يتم ذلك ينبغي أن تترك إدارتها إلى أهلها، مع إشراف من الأوقاف عليها ورقابة، ولكن دون أن تكون للوزارة تفاصيل الإدارة.
ينبغي أن يكون للدعاة دور في توجيه النمو الاقتصادي حتى يكون حقيقيًا غير زائف، وحتى يعود بالخير على الإنسان. ويكون ذلك بتوجيه خطاب بليغ إلى المستثمرين ليصححوا نيتهم حتى لا يكون الطمع داعيهم والجشع حاديهم والهلع دافعهم والفساد حليفهم. إن المستثمر المسلم الصالح يفكر في فائدة نفسه ومجتمعه ولا يعتدي على أرض الله وسمائه ولا تراب وطنه وموارد مائه (البيئة)، وقد يقبل بربح أقل في العاجل لتحقيق ربح أكثر له ولمجتمعه في الآجل، فإن هو استثمر في التعليم أحسن وأجاد وضم إلى نية الربح نية نفع الناس، فإن أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس كما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم. وهو أيضًا يفكر دومًا في مصلحة الوطن، فإن كان صالحه في الصناعات الصغيرة، وجه بعض ماله إليها، وإن رأى شدة حاجة الريف المصري للتطوير، سارع ليستثمر في مشاريع زراعية تقليدية وغير تقليدية، كالزراعة العضوية، وإن أحزنه حال محدودي الدخل وقلة الفرص أمامهم، ندب نفسه وانتدب بعض إخوانه من المستثمرين لعمل شيء من أجلهم، كبنك تسليف إسلامي مثلًا للمضاربة الصغيرة. لعلك تقول ومال للدعاة وهذا، والجواب أنهم لن يأخذوا مكان الخبراء، لكن سيحرضون المؤمنين على الأخذ برأي الخبراء فيما فيه صالح البلاد والعباد، ولا بأس أن يكون لهم كسائر الناس رأي فيما ينبغي عمله.
في المقال القادم نعرض إن شاء الله إلى تجديد الأساليب والقوالب في دعوة الأغنياء.
وصلى الله على محمد والحمد لله رب العالمين