هل رطوبة الفرج طاهرة أم نجسة، وهل مذهب الأئمة الأربعة نجاستها. إن كانت نجسة ألا يكون في ذلك حرج؟
الحمد لله
هذه الإفرازات طاهرة في مذهب أبي حنيفة ، وأحمد ، وإحدى الروايتين عن الشافعي،وصححها النووي ، وغسله – صلى الله عليه وسلم – إياها من على بدنه و أمره بغسلها لمن أكسل في الجماع (قبل النسخ بإيجاب الغسل) لاينتهض للحكم بنجاستها ولا لشيء لقيام الداعي إليه ،سواء كانت نجسة أو طاهرة ، وكذلك لأن ما يصيب المرء في الجماع ليس رطوبة الفرج فحسب ، بل ربما أصابه المذي الخارج للشهوة، فقد يكون ذلك قبل أن تصل الشهوة الذروة فينزل المني. و قد كانت عائشة – رضي الله عنها – تغسل المني الطري من ثوبه – صلى الله عليه وسلم. وإن كن صحابيات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يعددن الصفرة والكدرة شيئًا ، فهذه من باب الأولى.
والصحيح كذلك هو قول الإمام الجهبذ أبي محمد بن حزم – رضي الله عنه وصب على قبره شآبيب الرحمة والغفران– وهو أنها لا تنقض الوضوء، وذلك لما يأتي:
1. أن الأصل في الأشياء الطهارة حتى يثبت دليل يقتضي نجاستها.
2. وهذه الرطوبة مما تعم به البلوى ، و كانت أولى من الاستحاضة بالبيان من رسولا لله – صلى الله عليه وسلم –،ولم يأت فيها شيء فبقيت على العفو. ولا يصح عند أي عارف بالطب زعم بعضهم أن هذا نادر،وإنما ابتليت به نساء هذه العصور المتأخرة،فهذه الإفرازات كالعرق (كما نبه إليه كثير من فقهائنا المتقدمين)،وكالمخاط (كما تفضلت الدكتورة)،ودمع العين … إلخ. وللمهبل حاجة إليها كحاجة القصبة الهوائية للبلغم.
3. أن التحرز منها أو إيجاب الوضوء عند خروجها فيه حرج عظيم ومشقة على النساء،والمشقة تجلب التيسير.
4. لم يقل رسولا لله – صلى الله عليه وسلم – إن كل خارج من السبيلين ناقض للوضوء ،إنما هو قول الشافعية والحنابلة ، والله لم يتعبدنا بالضوابط الفقهية،إلا ما قام عليه منها الدليل الصحيح الصريح،إنما أمرنا – عز و جل – بطاعته وطاعة رسوله،ولم يصح فيها شيء.
5. لم يصح – فيما أعلم – التصريح بنقضها للوضوء عن صحابي واحد،ولا تابعي،بل ولا واحد من الأئمة الأربعة.
6. وقياسها على النجس الخارج من السبيلين لا يصح لعدم نجاستها عند الجمهور ،وقياسها على الريح الخارج من الدبر لا يصح ،وكان الأحسن أن تقاس على الريح الخارج من قبل المرأة لا دبرها،إن توجه القياس أصلاً في هذا الباب،ولا يتوجه.
7. أن الحكم بالطهارة و النجاسة تعبدي لا يتوسع فيه بالقياس،لذلك قال مالك – رحمه الله – بأن الخارج من السبيلين ليس كله ناقضًا و اقتصر على مورد النص،وانتصر له القرافي – رحمه الله – فقال: “والقياس على الأحداث بجامع النجاسة ممنوع ؛فإنه تعبد؛ لإيجاب الغسل من هذه الأشياء لغير المتنجس، والقياس في التعبد متعذر؛لعدم العلة الجامعة” وقال أبو محمد ابن حزم – رحمه الله: “… قد وجدنا الخارج من المخرجين مختلف الحكم،فمنهما يوجب الغسل،كالحيض،والمني،ودم النفاس،ومنهما يوجب الوضوء فقط كالبول،والغائط،والريح،و المذي،ومنهما لا يوجب الوضوء شيئا كالقصة البيضاء ،فمن أين لكم أن تقيسوا ما اشتهيتم ، فأوجبتم فيه الوضوء دون أن توجبوا فيه الغسل قياسا على ما يوجب الغسل من ذلك،أو دون أن توجبوا فيه شيئا قياسا على ما لا يجب فيه شيء من ذلك. وهل هذا إلا تحكم بالهوى الذي حرم الله تعالى الحكم به ، وبالظن الذي أخبرنا الله أن لا يغني من الحق شيئا. أما المالكيون فلم يقيسوا هنا ،ولا عللوا بخارج ولا مخرج،ولا بنجاسة فأصابوا .. فالحمد لله على عظيم نعمه علينا.”
8. و عز والقول بنقض الوضوء إلى الأئمة الأربعة – رضوان الله عليهم – دعوى بلا برهان،فلم يصح التصريح بذلك عن واحد منهم،فضلاً عن أن يكون اتفاقهم، بلا لتخريج على قول مالك – رحمه الله – بالاقتصار على موارد النص أنها لا تنقض،وكذلك يخرج عدم النقض على قول أبي حنيفة – رحمه الله -،بناء على جعلها لحكم منوطا بنجاسة الخارج ، ورطوبة فرج المرأة طاهرة عنده كما سبق. بل تخريج عدم نقضها للوضوء على مذهب الحنفية هو ما قطع به علامة المعاصرين منهم الشيخ مصطفى الزرقاء – رحمه الله -ففي فتاواه: “… سئلت في ما مضى كثيرا عن هذا الموضوع وكنت أبين شفهيا للسائلين من رجال ونساء أن هذا السائل اللزج الذي يخرج من المرأة في الحالات العادية (لا في الحالات المرضية) ويسميه الناس- الطهر- ليس بنجس شرعا ولا ينقض وضوء المرأة،كما يقرره الفقهاء. ومن السائلين من يستغرب هذا الجواب لأنهم متصورون خلافه ويتأكد مني فأؤكد لهم ، كأنما كل ما فيه تيسير وتسامح ودفع للحرج و المشقة فيما يتصل بواقع الحياة الطبيعية يراه الناس غريبا ، حتى كاد معنى الشريعة لا يتحقق إلا في الإرهاق و المشقة،مع أن هذه الشريعة الغراء السمحة أساسها التسير و دفع الحرج، وأخيرا جاءني سؤال خطي ولم يقنع صاحبه بجوابي فطالبني بالمستند من النصوص،لذلك سأنقل الآن جوابا على هذا السؤال النصوص التالية: قال في كتاب الطهارة من الدر المختار أول بحث نواقض الوضوء: (وينقضه خروج كل خارج نجس) … وسيجيء أن رطوبة الفرج طاهرة عنده ، أي عند الإمام أبي حنيفة – رضي الله عنه – خلافا لصاحبيه. ثم أوضح ابن عابدين – رحمه الله – في الحاشية هنا أن محل الخلاف بين أبي حنيفة و الصاحبين إنما هي رطوبة الفرج الداخلي ، وهو الذي لا يجب غسله فيحال لزوم النجاسة ،وأما رطوبة الفرج الخارجي فهي طاهرة بالاتفاق لأنها كرطوبة الفم والأنف والعرق.”
ولم يصرح الإمام ان الشافعي وأحمد – رحمهما الله – في الرطوبة بشيء ، ولكن يتخرج النقض بها في مذهبيهما على قولهم بالنقض بكل ما يخرج من السبيلين،وهذا أيضًا مع اعتبار قبل المرأة سبيلاً واحدًا ، ولا يصح ، بل فتحة المهبل سبيل ثالث،كما تفضلت الدكتورة ،ولقد تنبه إلى ذلك عدد من فقهائنا المتقدمين ونبهوا عليه.
فإن قلنا بنقضها للوضوء ،فليس على المرأة أن تفتش عند الشك،بل تستصحب أصل الطهارة،فهو المتيقن،واليقين لا يزول بالشك.
وصلى الله على محمد وآله