بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
بسم الله والحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا؛ من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بلغ عن ربه فأتم البلاغ، وبين لنا شرائع ديننا في شتى مناحي الحياة حتى غبطنا على بيانه أهل الكتاب، فاللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع ملته إلى يوم الدين آمين. وبعد،
هذا ا بحث مختصر في مسألة اجتماع الطبيب مع مريضة أو إحدى العاملات بالفريق الطبي وحدهما في غرفة الكشف أو غيرها، وهل يعد هذا من الخلوة المحرمة.
وقد مهدت قبل تناول موضوع البحث بكلام مختصر عن حكم التداوي وتعريف الحاجة وأثرها على مسائل هذا الباب.
أولاً: التمهيد
- حكم التداوي:
أهمية تحرير هذه المسألة هو أنه يعترض أحياناً على تجويز بعض الممنوعات في القطاع الطبي أو التوسع في بعض المسائل بأن التداوي لا يعدو أن يكون جائزاً، فكيف يتجرأ على الحرام لفعل ما هو جائز.
و التداوي عموماً قد تعتريه الأحكام الخمسة، قال الإمام ابن تيمية – رحمه الله -: ” التحقيق أن من التداوي ما هو محرم، ومنه ما هو مكروه، ومنه ما هو مباح، ومنه ما هو مستحب، ومنه ما هو واجب، وهو ما يعلم أنه يحصل به بقاء النفس لا بغيره، ليس التداوي بضرورة بخلاف أكل الميتة”([1]), وربما كان وجيهاً قوله ” ليس التداوي بضرورة بخلاف أكل الميتة” في زمنه، أما الآن فمن التداوي ما هو ضرورة لأنه يندفع به – في كثير من الحالات – الضرر العظيم عن النفس أو الأعضاء على وجه القطع أو غلبة الظن المقاربة لليقين.
ولقد ذهب الجمهور إلى الاستحباب دون الوجوب، والذي يترجح هو وجوب التداوي بالمأمون من الأدوية من الأمراض الضارة متى غلب على الظن حصول الشفاء به، وذلك لأدلة كثيرة منها:
(1) أمره r بالتداوي، فعن أسامة بن شريك -رضي الله عنه- قال: ” كنت عند النبي r وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله أنتداوى ؟ فقال: نعم، يا عباد الله تَدَاوَوْا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد. قالوا: ما هو؟ فقال: الهَرَم “([2]). نعم، جاء الأمر بعد سؤال ولكن الأحاديث كثيرة في حضه r على التداوي وإرشاده إليه وتنبيهه إلى نفعه. وأنت ترى أنه في هذا الحديث يعلل أمره بالتداوي بما فيه من النفع والمسلم ينبغي أن يحرص على ما ينفعه.
(2) بيانه أن لكل داء دواء، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله r: ” ما أنزل الله داءاً إلا أنزل له شفاءً “([3]). وفيه التوكيد على نفع التداوي وأنه حقيقي غير متوهم.
(3) قوله r “لا ضَرر ولا ضِرار” ([4]). و هذا الحديث -الذي هو من أصول الدين وقاعدة فقهية كلية كبرى- خير دليل على وجوب التداوي إذا غلب على الظن أنه يندفع به المرض، فأي ضرر دنيوي فوق ضرر المرض، فإنه ليس يعطل المرء عن الضرب في الأرض وعمارتها واكتساب الرزق فحسب، بل إنه يعطل عن الكثير من المصالح الدينية للفرد والأمة، كالجهاد والدعوة وتعلم العلم وتعليمه وشهود الجماعات والحج والعمرة والصيام وجل الأعمال البدنية بل والمالية، بل وفي بعض الأحيان القلبية أيضاً كالرضا والشكر. والعافية أوسع للمؤمن وأصلح لدينه ودنياه.
واستدلال المخالف بحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عن المرأة التي سألت النبي r أن يدعو الله لها بالشفاء، وتخييره r لها بين طلب الشفاء بدعوته والصبر على المرض مردود بأن هناك فرقاً بين طلب الدعاء والتداوي، ثم إن هذه واقعة عين ولعل النبي أراد أن يدخر لها الدعوة لأمر أعظم من الشفاء كدخول الجنة، ولعل النبي أراد غير ذلك كالتأكيد على معاني الصبر والتوكل وعدم سؤال الناس، ولو دعا النبي لكل أحد من أصحابه بما يريد لما صلح جيلهم للتأسي به، فالقصة إذاً محتملة لوجوه ولذا لا أرى أن يستدل بها على ترك التداوي.
وقولهم إن ترك التداوي أفضل لأنه تمام التوكل مردود بتداوي سيد المتوكلين r وأصحابه، بل إن رسول الله r قد بين أن الدواء من قدر الله الذي يطلب والداء من قدر الله الذي يدفع.
وما ذكروا من تركه r للتداوي كما في حديث أبي رِمْثَة، فالجواب عنه أن هذه واقعة عين لا يستدل بها إذا تطرقها الاحتمال ([5])، وهنا أكثر من احتمال: فربما أن رسول الله r كره أن يعالجه ذلك الرجل بالذات ([6]), أو أنه كان r أعلم بعلاج ما فيه، أو أنه كره شيئاً من سلوك الرجل، وقد ذكر صاحب عون المعبود أنه جاء في بعض روايات الحديث عند أحمد أن الرجل قال لرسول الله:r ” يا نبي الله إني رجل طبيب من أهل بيت أطباء فأرني ظهرك فإن تكن سلعة أبطها وإن كان غير ذلك أخبرتك فإنه ليس من إنسان أعلم مني”([7]).
أما ترك كثير من السلف للتداوي من غير إنكار عليهم، فلعل ذلك إن جاز من الصحابة في زمانهم فلا ينبغي أن يجوز في زماننا للفرق بين الدواء في زمانهم وزماننا، فإنه لا ينكر عاقل ما صار إليه الطب في زماننا من تقدم هائل حتى يمكن أن نقطع بأن هذا الدواء ينفع هذا المرض ([8]) بإذن الله كما يقطع السكين اللحم وتحرق النار الخشب. نعم هذا غير مطرد في كل الأمراض والأدوية ولكن متى حصلت غلبة الظن بنفع الدواء المعين لم يجز في دين الإسلام -القائم في تشريعاته على جلب المصالح ودفع المفاسد- ترك التداوي به، ويبقى ترك الصحابة للتداوي من غير نكير منهم على بعض دليلاً على جواز ترك التداوي في بعض الحالات لا كلها كما سنبين.
إن القول بوجوب التداوي إذاً هو الجاري على أصول الشريعة السمحاء التي جاءت بما فيه نفع الناس في الدنيا والآخرة.
من أجل هذه الأدلة وغيرها فإن الذي يترجح هو وجوب التداوي بالمأمون من الأدوية من الضار من الأمراض، ولكن لا يكون التداوي دائماً واجباً، بل يكون أحياناً مباحاً إذا كان فيه ضرر يساوي ضرر المرض، وربما تكون هناك حالات خاصة جداً يكون الصبر فيها على المرض خيراً من التداوي، كما لو كان الدواء عالي الخطورة مع ضعف الظن بحصول النفع منه وارتفاع تكلفته مما قد يؤدي إلى الغرم وضياع الأولاد، ففي هذه الحالات وغيرها يبقى للمسلمين فسحة ([9]) في ترك التداوي ويستدل هنا بما سبق مناقشته من ترك الصحابة للتداوي وغير ذلك مما استدل به على عدم وجوبه.
وأخيرًا، فإن أكثر العلماء المعاصرين متفقون على كون التداوي واجباً في بعض الحالات كالإسعاف والعلاج من الأمراض المعدية، وإذا كان المرض يؤدي إلى إعاقة دائمة أو زمانة أو يطول ويشق على أهله والمجتمع تلبية حاجاته.
- أثر الحاجة على الأحكام في القطاع الطبي:
جاء في الموسوعة الفقهية: “الحاجة تطلق على الافتقار, وعلى ما يفتقر إليه. واصطلاحا هي – كما عرفها الشاطبي – ما يفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المصلحة, فإذا لم تراع دخل على المكلفين – على الجملة – الحرج والمشقة. ويعتبرها الأصوليون مرتبة من مراتب المصلحة, وهي وسط بين الضروري والتحسيني. والفقهاء كثيرا ما يستعملون الحاجة بالمعنى الأعم وهو ما يشمل الضرورة, ويطلقون الضرورة مرادا بها الحاجة التي هي أدنى من الضرورة “([10]).
و قال الزركشي – رحمه الله -: “الحاجة العامة ([11]) تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق آحاد الناس كررها إمام الحرمين في مواضع من البرهان وكذا في النهاية. فقال في باب الكتابة إن عقد الكتابة والجعالة والإجارة ونحوها جرت على حاجات تكاد تعم, والحاجة إذا عمت كانت كالضرورة فتغلب فيها الضرورة الحقيقية. منها… وكذلك الجعالة والقراض وغيرهما مما جوز للحاجة وكذلك إباحة النظر للعلاج ونحوه “([12]).
ومن أضبط ما قرأت عن مفهوم الحاجة ما ذكره الدكتور عبد الله بن بيه حيث قال: “وباختصار فإن الفرق بين الضرورة وبين الحاجة يتجلى في ثلاث مراتب: مرتبة المشقّة ومرتبة النهي ومرتبة الدليل.فإن الضرورة في المرتبة القصوى من المشقّة أو من الأهمية والحاجة في مرتبة متوسطة. والنهي الذي تختص الضرورة برفعه هو نهي قوي يقع في أعلى درجات النهي لأن مفسدته قوية أو لأنه يتضمن المفسدة فهو نهي المقاصد بينما تواجه الحاجة نهياً أدنى مرتبة من ذلك لأنه قد يكون نهي الوسائل. أما مرتبة الدليل فإن الدليل الذي ترفع حكمه الضرورة قد يكون نصاً صريحاً من كتاب أو سنّة أو سواهما. أما الدليل الذي تتطرق إليه الحاجة فهو في الغالب عموم ضعيف يخصص، أو قياس لا يطرد في محل الحاجة، أو قاعدة يستثنى منها “([13]).
و بتطبيق هذه المفاهيم، نجد أن المجال الطبي من أولى المجالات لتطبيق هذه القاعدة فيه وذلك للأسباب الآتية:
- كون المحرمات فيه أكثرها من نوع نهي الوسائل والأدلة على تحريمها ليست مما هو قطعي الدلالة والثبوت.
- كون المشقة المترتبة على ترك أكثر الحاجات فيه من نوع المشقة الوسطى وكثيراً ما ترقى لتكون مشقة كبرى، مما يجعل المصلحة عندئذ ضرورية وليست فقط حاجية.
- كون المرض من أسباب التخفيف، وكذلك عموم البلوى ([14]) وكلاهما واقع في القطاع الطبي، سيما الأمر الأخير فإنه كثير في بلاد الإسلام ناهيك عن غيرها.
وقد تقرر في الشرع بالإجماع رفع الحرج, فحيث وجد الحرج وجد التخفيف, ويستدل على تطبيق هذه القاعدة في المجال الطبي بأدلة كثيرة منها حديث عرفجة، أنه قطع أنفه يوم كلاب فاتخذ أنفاً من فضة فأنتن عليه فأمره النبي r أن يتخذ أنفاً من ذهب.
و قد استفاد فقهاؤنا من قاعدة “الحاجة تنزل منزلة الضرورة” في تجويز العمليات التجميلية الحاجية كعملية تفريج الأصابع الملتصقة وشد الأسنان بالذهب إذا كانت الحاجة داعية لذلك والتداوي بحقن الدم بل وإنشاء بنوك الدم إذا كانت الحاجة داعية إلى ذلك…الخ.
لذا فإن الحاجة في المجال الطبي إن كانت حقيقية غير متوهمة فإنها قد يكون لها الآثار الآتية:
- ترجيح قول ضعيف لأحد المعتبرين من الفقهاء، إذا لم يكن ضعفه شديداً ([15]).
- إباحة محظور تتوافر فيه الشروط الآتية:
ومن أمثلة ذلك، المداواة بالنجاسات عند الحنفية والشافعية.
- إسقاط واجب، كالجمعة والجماعات على جراح لم ينته من جراحته، أو مسعف لم تستقر حالة مريضه.
- تأخير، كتأخير الظهر أو المغرب عند الحاجة، كما يكون في حال الجراحين.
ثانياً: خلوة الطبيب بمن لا تحل له من الممرضات و المريضات – ما هو ضابط الخلوة المحرمة ؟ وهل الوجود بغرفة مغلقة خلوة و إن كانا لا يأمنان دخول أحد عليهما ؟
الخلوة بالأجنبية محرمة اتفاقاً – على خلاف فيما تتحقق وما تندفع به ([18]) – وذلك لقوله r: ” ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان”([19]).
وقبل الشروع في الكلام عن حكم خلوة الطبيب بالأجنبية للحاجة، نؤكد أنه إذا كان ثم ضرورة، كحالات الإسعاف، فإن المقطوع به هو الجواز عندئذ، وكيف لا تكون الضرورة مجوزة لمثل هذا المحرم لغيره.
لكن الواقع هو أن الأمر لا يقف عند حد الضرورة، فالأطباء – سيما العاملين بالغرب – يواجهون هذه القضية بصفة يومية، فإن طبيب الأطفال مثلاً قد يخلو بأم الرضيع – الذي لا أثر لوجوده على حكم الخلوة – ولا سبيل لأن يطلب مرافقة إحدى العاملات أو أحد العاملين له كلما فحص طفلاً، وكذلك فإن السرية – وهي من أساسيات العمل الطبي في الغرب – تقتضي إغلاق الباب عند أخذ التاريخ المرضي والفحص.
كلامنا هنا إذًا عن حكم هذا الاجتماع عند وجود الحاجة لا الضرورة.
أقوال أهل العلم
ذهب فريق من أهل العلم إلى المنع من تلك الخلوة، ففي فتاوى الشيخ ابن باز – رحمه الله –([20]): “لا يجوز لك الخلوة بالمرأة، ولا يجوز أن يخلو ممرض أو طبيب بممرضة أو طبيبة، لا في غرفة الكشف، ولا في غيرها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ)، ولما يفضي إليه ذلك من الفتنة إلا من رحم الله، ويجب أن يكون الكشف على الرجال للرجال وحدهم ، وعلى النساء للنساء وحدهن” انتهى .
ومن فتاوى اللجنة الدائمة: “لا يجوز أن يخلو الطبيب بالمرأة المريضة للكشف عليها ، بل لا بد من حضور زوجها أو محرمها أثناء الكشف عليها. وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.”
واللجنة هنا تأخذ برأي الحنابلة بضرورة وجود المحرم وعدم انتفاء الخلوة بوجود امرأة أخرى أو رجل آخر، وهو ظاهر قوله : “لا يَخْلوَنَّ رَجلٌ بامْرَأَةٍ إلا مع ذي مَحرَمٍ”([21])، ولكن الراجح انتفاؤها لقول رسول الله r: “لا يَدخُلَنَّ رجُلٌ بَعدَ يَومِي هذا على مُغِيبةٍ إلا ومَعَهُ رجُلٌ أو اثنَانِ”([22])
ولعل القول بضرورة وجود ذي محرم مع المرأة عند مداواة الطبيب لها، أو إن كانت ممرضتان مع طبيب في غرفة واحدة، مما يوقع كثيرًا من الناس في الحرج والمشقة، سيما إن كانوا في بلاد لا تراعي الفصل في المشافي بين أقسام الرجال والنساء. إن الخلوة بمجموعة نساء ضرب من الاختلاط، لا الخلوة المحرمة شرعًا، فينطبق عليها ما ينطبق على الاختلاط من آداب وأحكام.
ولم أجد من أهل العلم من صرح كتابة بجواز اجتماع الطبيب بالمريضة في غرفة وحدهما، ولكنني ناقشت فضيلة الشيخ وهبة الزحيلي في ذلك في إحدى جلسات مؤتمر مجمع فقهاء الشريعة المنعقد بالقاهرة، وبينت له أن هذا الاجتماع لا يؤمن معه أن يفتح الباب في أية لحظة من قبل أعضاء آخرين في الفريق الطبي، فلم ير به عند ذلك بأسًا.
الترجيح
إن تحريم الخلوة إنما هو من تحريم الوسائل لا المقاصد، فإنها إنما حرمت لما تؤدي إليه: “إلا كان ثالثهما الشيطان”. وما حرم لما يفضي إليه فإنه قد يباح لبعض المكلفين أو في بعض أوقات التكليف للحاجة، وقد جاءت الشريعة بأمثال ذلك كما هو في تجويز ربا الفضل في بيع العرايا ولبس الحرير لمن في بدنه حكة واتخاذ عضو من الذهب والنظر لعورة الأجنبية للمداواة وتعاطي النجاسات لها عند الحنفية والشافعية، وإنك تجد أن أكثر هذه الأمثلة جاءت في باب التداوي.
والطبيب إذا كان بإحدى الغرف مع إحدى مريضاته أو الممرضات، فإنه لا يأمن أن يفتح أحد العاملين الباب؛ وفي الفروع لابن مفلح – رحمه الله – عن الإمام أحمد – رحمه الله -: ” وقد سأله المَرّوذِي عن الكحال يخلو بالمرأة وقد انصرف من عنده: هل هي منهي عنها ؟ قال: أليس هي على ظهر الطريق ؟ قيل: نعم، قال: إنما الخلوة في البيوت “([23]).
و هذا الكلام من الإمام أحمد – رحمه الله – قد يكون مفيداً في حالتنا إذا كان المقصود من كون الكحال على ظهر الطريق كثرة الداخل إلى دكانه والخارج منه، أما إن كان لا دكان له بل يعالج الناس في الطريق حقاً فإن استعمال المروذي – رحمه الله – للفظ الخلوة إذاً كان فيه تجوز ولعله إذاً أراد خلوة الحديث لا خلوة النظر.
وفي درر الحكام: “الخلوة… المراد بها اجتماعهما بحيث لا يكون معهما عاقل في مكان لا يطلع عليهما أحد بغير إذنهما أو لا يطلع عليهما أحد لظلمة “([24]), والواضح من التعريف أن عدم أمن دخول عاقل جزء من ماهية الخلوة الشرعية.
إن أكثر ما يكون من خلوة في المجال الطبي لا يؤمن معه دخول أحد العاملين بالفريق الطبي، ولذلك فإن حصول الوطء – وهو المخوف عند الخلوة – أمر ممتنع طبعاً وعرفاً، والحاجة قد تدعو إلى هذه الخلوة لبعض الوقت في بعض الأحيان.
إن عدم أمن دخول العاقل يقلل – على أقل تقدير – من احتمال إفضاء تلك الخلوة لما حرمت له، فإن اجتمع إلى ذلك وجود الحاجة إليها، لساغ الترخص في أمرها، فإن هذا الباب أولى بالتوسع فيه للحاجة من غيره.
ويبقى أن نؤكد أنه ينبغي للطبيب المسلم أن يحرص على عدم حصول هذه الخلوة ما امتهد السبيل إلى ذلك وأمكن وجود مرافق أو مرافقة، ويتأكد هذا الأمر أكثر مع الشواب من النساء والمراهقات دفعًا للفتنة والشبهة وصيانة للعرض من التهم.
المراجع
- سنن ابن ماجه (بتحقيق مشهور)
محمد بن يزيد أبو عبدالله القزويني، بتحقيق مشهور بن حسن آل سلمان وحكم الألباني على درجة الحديث، مكتبة المعارف، الرياض، الأولى
- صحيح البخاري (الجامع الصحيح)
محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، بتحقيق مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير , اليمامة، بيروت، الثالثة، 1407
- صحيح مسلم
مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت
- عون المعبود شرح سنن أبي داود
محمد شمس الحق العظيم آبادي أبو الطيب، دار الكتب العلمية، بيروت، الثانية، 1415
- الفروع
محمد بن مفلح بن محمد المقدسي، عالم الكتب
- الموسوعة الفقهية
وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت، وزارة الأوقاف الكويتية
- الأشباه والنظائر
عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت
- إعلام الموقعين
محمد بن أبي بكر الزرعي (ابن القيم)، دار الكتب العلمية، بيروت
- الطرق الحكمية في السياسة الشرعية
محمد بن أبي بكر الزرعي (ابن القيم)، مكتبة دار البيان
- المنثور في القواعد الفقهية
بدر الدين بن محمد بهادر الزركشي، وزارة الأوقاف الكويتية
([1]) مجموع الفتاوى: للإمام ابن تيمية 37 / 471.
([2]) الترمذي: كتاب الطب، باب ما جاء في الدواء والحث عليه، 2038, وقال حسن صحيح.
([3]) البخاري: كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، ج: 5 ص: 2151.
([4]) حديث شريف وأيضاً قاعدة فقهية كلية: رواه ابن ماجة: ج 2 ص 784 برقم 2340. وصححه الألباني (انظر سنن ابن ماجه بتحقيق مشهور برقم 2340).
([5]) قال ابن القيم في الطرق الحكمية:341/1 “وإذا احتملت القصة هذا وهذا لم يجزم بوقوع أحد الاحتمالات إلا بدليل”.
([6]) ولقد ذكر موفق الدين البغدادي هذا الحديث وترجم له باجتناب من لا يحسن الطب (الطب من الكتاب والسنة:189).
([8]) من أمثلة ذلك بعض الأمراض الخمجية في استجابتها للمضادات الحيوية وكذلك استجابة الربو الصدري لموسعات الشعب. ولكل قاعدة شواذ ولكن لا عبرة بالنادر.
([9]) بخلاف أهل أديان أخرى كبعض مذاهب النصارى ممن يتعنتون بهذا الصدد تعنتاً شديداً يوقع المرضى وأسرهم بل والمجتمع في الحرج.
([10]) الموسوعة الفقهية 16/248.
([11]) وقد رجح ابن نجيم أنها تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة (انظر غمز عيون البصائر، شرح الأشباه والنظائر للحموي، ص294).
([12]) المنثور في القواعد الفقهية 2/24-25.
([13]) من مقالات له بعنوان “صناعة الفتوى وفقه الأقليات” على موقع الإسلام اليوم.
([14]) انظر قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 192-195.
([15]) انظر الأشباه والنظائر، للسيوطي (172).
([16]) انظر إعلام الموقعين 2/117.
([17]) فإن المشقة التي تقترب من تلك التي لا ينفك عنها التكليف غالباً لا أثر لها وإن كانت فوق مشقة التكليف غالباً كحمى خفيفة (انظر قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 192-195).
([18]) الراجح عند الشافعية أن الخلوة تنتفي بوجود امرأة ثقة أخرى وعند الحنابلة الخلوة لا تنتفي بوجود امرأة أو أكثر مع الطبيب والمريضة كما لا تنتفي بوجود أكثر من رجل مع الطبيب إلا إذا كان الرجل أحد محارمها.
([19]) الترمذي 2091 وهو في الصحيحين دون قوله “إلا كان ثالثهما الشيطان “.
([20]) فتاوى الشيخ ابن باز ( 9 / 431 ) .
([21])صحيح البخاري جزء 5 صفحة 2005.
([22]) صحيح مسلم جزء 4 صفحة 1711.